الوقف بين التعريف الفقهي والتطبيق المؤسسي المعاصر






المقدمة

يُعدّ الوقف من أعظم المؤسسات الحضارية التي أبدعها الفقه الإسلامي، إذ أسهم في تمويل التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، وحافظ على استمرارية الخير عبر الأجيال. وبالرغم من وحدة الغاية، فإن الفقهاء اختلفوا في تعريف الوقف وأحكامه باختلاف مذاهبهم. وتأتي هذه الورقة لتقديم تعريف شامل للوقف، وبيان شروطه وأحكامه، مع تسليط الضوء على دور الناظر، ثم ربط ذلك بالممارسات النظامية الحديثة.



أولاً: تعريف الوقف

1. التعريف اللغوي والشرعي


لغةً: الحبس.

شرعاً: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود.


2. تعريف الوقف في المذاهب الأربعة

الحنفية: حبس المملوك عن التمليك، فلا يجوز بيعه أو التصرف فيه، مع صرف منفعته في البر (السرخسي، أبو يوسف، محمد).

المالكية: إعطاء منفعة الشيء مدة وجوده مع لزوم بقاء ملكه للواقف ولو تقديراً.

الشافعية: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء أصله، وصرف منفعته في البر طلباً للقربة.

الحنابلة: حبس الأصل وتسبيل المنفعة، أي بقاء العين الموقوفة مع إطلاق منفعتها للجهة المعنية.



ثانياً: مشروعية الوقف

ثبتت مشروعية الوقف بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى:

{لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92].

كما وردت عدة أحاديث نبوية تؤكد أصله، مثل حديث وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرضه بخيبر.


ثالثاً: الحكمة من الوقف

استمرار الأجر بعد وفاة الواقف (الصدقة الجارية).

تعزيز التكافل الاجتماعي والتعاون بين الأفراد.

استدامة الموارد لدعم المصالح العامة (التعليم، الصحة، البنية التحتية).

حماية المال من الضياع وتوجيهه لجهات الخير.



رابعاً: شروط الوقف


1. أن يكون الواقف مالكاً كامل الأهلية للتبرع.
2. أن يكون الموقوف مالاً متقوَّماً معلوماً.
3. أن يكون عيناً يمكن الانتفاع بها مع بقاء أصلها.
4. أن يكون المصرف جهة بر مشروعة.
5. أن يُعيَّن المصرف تعييناً واضحاً (شخص، جهة، صنف).
6. أن يكون الوقف مؤبداً غير مؤقت، منجزاً لا معلقاً (إلا إذا عُلّق على الموت فيعد وصية).



خامساً: أحكام الوقف


يصح الوقف على الغني والفقير، القريب والبعيد.

يجوز تعدد جهات الوقف.

لا يصح وقف ما يتلف بالانتفاع به (كالطعام والنقود) إلا إن استُثمرت بصيغ مشروعة.

إن لم يُحدد المصرف، صُرف إلى أفضل وجوه البر كالمساجد والفقراء.

إن خصص لمَعصية، حوّل إلى أقرب وجوه الخير.



سادساً: قسمة ريع الوقف


إذا كان الموقوف عليهم محصورين: يعمم الريع بالتسوية.

إن وقف على أولاده: يكون للذكر مثل حظ الأنثيين.

يجوز التفضيل لمن بهم حاجة كالمريض أو العاجز.

يُعمل بشرط الواقف ما لم يخالف الشرع، وإلا فالعرف.




سابعاً: الناظر (المتولي)


1. تعيين الناظر

للواقف أن يشترط النظر لنفسه أو لغيره.

إن لم يعيّن، فللقاضي تولية الأصلح.

عند الحنفية: الولاية للواقف أصالة.

عند الشافعية والمالكية: النظر للقاضي عند عدم تعيين.

يجوز تعدد النظار لمصلحة.


2. شروط الناظر

العدالة الظاهرة (عند الجمهور).

الكفاية والقدرة على الإدارة.

الإسلام إن كان الموقوف لمسلمين.


3. واجبات الناظر

حفظ الوقف وصيانته وتنميته.

إدارة العقار وتأجيره بأجر المثل.

استثمار الأموال الموقوفة بصيغ مشروعة.

الدفاع عن حقوق الوقف.

أداء ديون الوقف وحقوق المستحقين.

إعداد حسابات وتقارير دورية.


4. عزل الناظر

للواقف عزل الناظر متى شاء.

للقاضي عزله إذا خان أو قصّر.

للناظر عزل نفسه بطلب الاستقالة.

شرط الواقف بعدم العزل لا يُعمل به إن خالف الشرع.



ثامناً: الوقف في الأنظمة الحديثة (السعودية نموذجاً)

تبنت المملكة العربية السعودية أنظمة حديثة لتنظيم الأوقاف، أبرزها لوائح الهيئة العامة للأوقاف، التي تضمنت:

إلزام الأوقاف بالقيد النظامي وإصدار سجل تجاري.

وضع ضوابط لاستبدال الوقف واستثماره.

تعزيز الرقابة والشفافية عبر تقارير مالية دورية.

إقرار الحوكمة في تعيين الناظر، بما يحقق الكفاءة ويمنع تضارب المصالح.



الخاتمة

الوقف مؤسسة دينية واجتماعية ذات أثر مستدام، جمعت بين الجانب الشرعي والوظيفة التنموية. تنوعت تعريفاته الفقهية لكن غايته واحدة: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة في سبيل الله. ومع التطورات النظامية الحديثة، أصبح الوقف أكثر قدرة على الاستدامة والحوكمة، بما يضمن تحقيق مقاصده الشرعية في بناء مجتمع متكافل ومتوازن.



المراجع

السرخسي، المبسوط.

ابن قدامة، المغني.

النووي، روضة الطالبين.

الدردير، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي.

ابن عابدين، رد المحتار.

الهيئة العامة للأوقاف (السعودية)، اللوائح التنفيذية.

قانون الوقف المصري.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تنويه أكاديمي

قد تبدو تواريخ النشر متقاربة، نظرًا لعملية نقل وأرشفة الأبحاث والمقالات إلى المدونة بعد تدشينها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إعداد: د. محمد عيدروس باروم
باحث أكاديمي ومدرب معتمد في القيادة، الحوكمة، والاستراتيجية.
© 2025 جميع الحقوق محفوظة
يُسمح بالاقتباس لأغراض علمية وغير ربحية مع الإشارة إلى المصدر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عقدة المنصب الجديد: الآليات السيكوسوسيولوجية لتقزيم الماضي وبناء الشرعية الزائفة في القيادة - إعداد: د. محمد عيدروس باروم

استراتيجيات عملية لتعزيز الإنتاجية والرضا الوظيفي - اعداد: د. محمد عيدروس باروم

مؤشرات المخاطر القيادية ودورها في استدامة المنظمات اعداد: د. محمد عيدروس باروم