تضارب المصالح: من النظرية إلى التطبيق - تحليل شامل مع دراسة حالة الأوقاف

تضارب المصالح من النظرية إلى التطبيق تحليل شامل مع دراسة حالة الأوقاف | د. محمد عيدروس باروم

حوكمة وأخلاقيات مهنية

تضارب المصالح من النظرية إلى التطبيق تحليل شامل مع دراسة حالة الأوقاف

استكشاف شامل لتضارب المصالح: تعريفه، أنواعه، آثاره المدمرة، واستراتيجيات إدارته عبر القطاعات المختلفة، مع تحليل معمّق لتضارب المصالح في الأوقاف في ضوء اللوائح المحلية والدولية.

مقدمة

في عالم يتسم بالتعقيد والترابط، أصبحت العلاقات بين الأفراد والمؤسسات أكثر تشابكًا من أي وقت مضى. ضمن هذا التشابك، تبرز قضية أخلاقية بالغة الأهمية، قد تواجه أيًا منا، سواء أكنّا باحثين، أطباء، موظفين، مدونين، أو حتى مستهلكين: تضارب المصالح (Conflict of Interest). ليس تضارب المصالح جريمة في حد ذاته، لكن إخفاءه أو سوء إدارته هو ما يقوض الثقة ويشكك في نزاهة القرارات. من خلال هذا المقال، سنغوص في مفهوم تضارب المصالح، ونحلله أكاديميًا، ونستعرض أمثلة واقعية من عدة قطاعات، مع إيلاء اهتمام خاص بقطاع الأوقاف كدراسة حالة مليئة بالتحديات والدروس، ونختتم بآليات فعالة لإدارته.

ما هو تضارب المصالح؟ تعريف أكاديمي

يُعرَّف تضارب المصالح وفقًا للمعايير الدولية (مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD) والأطر الأكاديمية (كمعايير COPE لأخلاقيات النشر) على أنه:

“موقف تنشأ فيه مصلحة شخصية أو مهنية للفرد يمكن أن تؤثر بشكل غير لائق على أدائه لواجباته المهنية أو مسؤولياته الأساسية.”
المفتاح هنا هو إمكانية التأثير وليس بالضرورة وجود تأثير فعلي. مجرد وجود احتمال أن يكون الحكم الشخصي متحيزًا بسبب مصلحة خارجية يكفي لاعتبار الموقف تضاربًا في المصالح يجب الإفصاح عنه.

أشكال وأنواع تضارب المصالح عبر القطاعات

لا يقتصر تضارب المصالح على الشكل المالي الواضح، بل يتخذ عدة أشكال عبر مجالات مختلفة:

  1. التضارب المالي (Financial Conflict of Interest): يحدث عندما يحصل فرد على منفعة مالية (مثل رشوة، عمولة، أسهم، هدايا باهظة) من جهة قد تؤثر على قراراته المهنية. مثال: طبيب يصف دواءً لشركة أدوية يملك أسهمًا فيها.
  2. تضارب المصالح في البحث العلمي (Research COI): يحدث عندما تكون لمُعدّ البحث مصلحة في نتائجه. مثال: باحث يجري دراسة على دواء تموله شركة أدوية وهو مستشار غير معلن لها.
  3. تضارب الالتزامات (Conflict of Commitment): يحدث عندما تنقسم ولاءات الفرد بين جهتين. مثال: أستاذ جامعي يقضي معظم وقته في عمل استشاري خاص على حساب مسؤولياته في التدريس.
  4. تضارب المصالح الشخصي (Personal Relationships COI): ينشأ من العلاقات العائلية أو الشخصية. مثال: مدير يعيّن قريبًا له في منصب داخل الشركة دون مراعاة الكفاءة.
  5. تضارب المصالح في القطاع العام والحكومي: مثال: موظف حكومي في هيئة رقابية يتخذ قرارًا لصالح شركة تربطه بها علاقة شخصية.
  6. تضارب المصالح في الإعلام: مثال: صحفي يكتب تقريرًا إيجابيًا عن شركة يتقاضى منها دعمًا إعلانيًا غير معلن.

لماذا يعتبر تضارب المصالح مشكلة خطيرة؟ العواقب الشاملة

  • انهيار الثقة: فقدان ثقة الجمهور في المؤسسات العلمية، الطبية، الإعلامية، والخيرية.
  • تآكل النزاهة: تقويض أسس العمل القائم على الموضوعية والحياد.
  • قرارات سيئة: اتخاذ قرارات غير مثلى لأنها تستند إلى مصالح شخصية وليس إلى الأدلة أو المصلحة العامة.
  • مخاطر قانونية وسمعة مؤسسية: دعاوى وغرامات وتضرر السمعة على نحو يصعب إصلاحه.

تضارب المصالح في الأوقاف: دراسة حالة على الحوكمة

تمثل الأوقاف، بمختلف أنواعها (خيرية، أهلية، دينية)، ركيزة أساسية في التنمية المجتمعية. إلا أن طبيعتها الخاصة تجعلها بيئة خصبة لتضارب المصالح بصور معقدة، وهو ما أولته اللوائح التنظيمية في العديد من البلدان اهتمامًا بالغًا، مثل لوائح الهيئة العامة للأوقاف في السعودية. ووفقًا للائحة تنظيم أعمال النظارة الصادرة عن الهيئة العامة للأوقاف (2020م)، يُؤكد على ضرورة تجنب أي تضارب قد يضر بمصلحة الوقف والالتزام بالإفصاح.

أولًا: لماذا الأوقاف بيئة حساسة؟

  • غياب المالك الرقابي (مشكلة الوكيل والأصيل): تُدار الأوقاف بواسطة “ناظر” أو مجلس إدارة يؤدي دور الوكيل عن الواقف (الأصيل) والمستفيدين؛ ومع غياب رقابة مباشرة قد يفضّل الوكيل مصلحته.
  • ضبابية الحدود بين المصلحة العامة والخاصة: قد تُبرر قرارات مشبوهة بذريعة “مصلحة الوقف”.
  • تنوع وقيمة الأصول: امتلاك عقارات وأراضٍ مميزة يُغري بإساءة الاستخدام.

ثانيًا: أشكال التضارب في الأوقاف

  • منح عقود مشاريع أو صيانة لشركات يملكها الناظر أو أقاربه.
  • تأجير أصول الوقف بأسعار متدنية لجهات مرتبطة بالناظر.
  • صرف مكافآت ومزايا للنظار تتجاوز الحدود المسموح بها.
  • تعيين الأقارب أو المقربين داخل إدارة الوقف دون مراعاة الكفاءة.
  • تركيز النظارة في شخص واحد أو عائلة واحدة لعدة أوقاف كبرى.

ثالثًا: العواقب الخاصة بالأوقاف

  • إهدار المال العام والانحراف عن مقاصد الواقف.
  • انهيار ثقة المجتمع في مؤسسة الوقف.
  • مخاطر قانونية وجنائية قد تصل إلى العزل والغرامات والمتابعة القضائية.

كيفية إدارة تضارب المصالح: نحو شفافية أفضل

  1. الإفصاح (Disclosure): إعلان أي مصلحة شخصية قد تُعد تضاربًا محتملًا.
  2. التقييم (Assessment): تقييم شدة التضارب عبر لجنة مستقلة.
  3. الإدارة (Management): إجراءات للتخفيف، مثل:
    • تنحية الشخص صاحب التضارب عن التقييم أو التصويت.
    • علنية القرارات وإشراك الأطراف ذات العلاقة.
    • التخلي عن المصلحة المالية (مثل بيع الأسهم).
  4. السياسات والتدريب (Policies & Training): سياسات مكتوبة وتدريب دوري لتعزيز الثقافة المؤسسية.
  5. آليات رقابية متطورة (خاصة في الأوقاف):
    • رقابة شرعية مستقلة لفحص الالتزام بشروط الواقف.
    • رقابة رقمية ذكية باستخدام تحليلات وأنماط للكشف المبكر.
    • تمكين المستفيدين من الرقابة عبر منصات شفافة.

خاتمة

تضارب المصالح ليس انحرافًا بحد ذاته، بل اختبار للضمير المؤسسي والفردي. إدارة هذه المواقف عبر الإفصاح والحوكمة الرشيدة تعزز ثقة المجتمع وتدعم استدامة المؤسسات. حالة الأوقاف تقدم درسًا واضحًا: المؤسسات التي تتبنى سياسات واضحة، وشروط إفصاح صارمة، وأنظمة رقابية متطورة، لا تحمي سمعتها وأموالها فحسب، بل تصون أيضًا إرثًا اجتماعيًا ودينيًا وأخلاقيًا يضمن التكافل بين الأجيال.

وما بين المعايير الدولية واللوائح المحلية، يبقى المعيار الأخلاقي هو الضابط الحقيقي لاستدامة أي مؤسسة. تبدأ المسؤولية من إدراك الفرد لدوره — باحثًا كان أو موظفًا أو ناظرًا أو مستفيدًا — بأن الشفافية والإفصاح قيمة أخلاقية قبل أن تكون التزامًا قانونيًا.

ما رأيك؟ هل واجهت موقفًا شعرت أنه قد يكون فيه تضارب مصالح؟ كيف نعزّز ثقافة الشفافية في مجالاتنا المختلفة؟ شاركنا تجربتك في التعليقات.
© جميع الحقوق محفوظة لـ د. محمد عيدروس باروم. هذا المحتوى موجه للتثقيف والمرجعية المهنية والأكاديمية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عقدة المنصب الجديد: الآليات السيكوسوسيولوجية لتقزيم الماضي وبناء الشرعية الزائفة في القيادة - إعداد: د. محمد عيدروس باروم

استراتيجيات عملية لتعزيز الإنتاجية والرضا الوظيفي - اعداد: د. محمد عيدروس باروم

مؤشرات المخاطر القيادية ودورها في استدامة المنظمات اعداد: د. محمد عيدروس باروم