بين البحث والتطبيق: مقارنة بين Big Five وDISC في دراسة السلوك الإداري والقيادي إعداد: د. محمد عيدروس باروم
تهدف هذه الورقة البحثية إلى تحليل نموذجي Big Five وDISC في دراسة السلوك الإداري والقيادي، مع التركيز على الجمع بين الدقة العلمية والفائدة التطبيقية. تبيّن النتائج أن نموذج Big Five يتميز بقوة علمية أكاديمية بينما يمتاز DISC بسهولة التطبيق العملي، وأن التكامل بينهما يوفر إطاراً شاملاً لفهم السلوك الإداري وتحسين فعالية القيادة التنظيمية.
الكلمات المفتاحية: Big Five، DISC، السلوك الإداري، القيادة، الموارد البشرية، التطوير التنظيمي.
المقدمة
تمثل دراسة الشخصية والسلوك الإنساني أحد الركائز الأساسية في الإدارة والقيادة، حيث تؤثر السمات الفردية بشكل مباشر في أسلوب اتخاذ القرار، وإدارة الفريق، والاستجابة للضغوط. ومع تطور العلوم السلوكية، ظهرت عدة نماذج لقياس الشخصية، أبرزها: نموذج العوامل الخمسة الكبرى (Big Five) ذو الطابع الأكاديمي البحثي، ونموذج DISC ذو الطابع التطبيقي العملي.
تسهم هذه الورقة في سد فجوة معرفية في الأدبيات العربية عبر تقديم إطار تكاملي بين Big Five وDISC، من خلال الإجابة على السؤال الرئيسي: كيف يمكن الجمع بينهما لتحقيق توازن بين الدقة العلمية والفائدة العملية في الإدارة الحديثة؟
المنهجية
اعتمدت هذه الورقة على المنهج التحليلي المقارن الوصفي، من خلال تحليل الأدبيات العلمية والدراسات السابقة ذات الصلة بنموذجي الشخصية موضوع البحث. تم جمع البيانات من مصادر أكاديمية موثوقة، وتحليلها بطريقة نقدية لتحديد أوجه التشابه والاختلاف بين النموذجين، وإمكانيات التكامل بينهما في الممارسات الإدارية والقيادية. تجدر الإشارة إلى أن الورقة اعتمدت على تحليل وصفي مقارن مدعوم بالمراجع الموثوقة، دون إجراء مسح ميداني أو تجارب إحصائية، مما يجعل النتائج ذات طبيعة تحليلية نظرية.
الإطار النظري
أولاً: نموذج العوامل الخمسة الكبرى (Big Five/OCEAN)
نشأ هذا النموذج في علم النفس التجريبي، وهو يعد الأكثر اعتماداً في الدراسات العلمية حيث يتمتع بقاعدة بحثية واسعة تدعم مصداقيته (Costa & McCrae, 1992). يتكون النموذج من خمسة أبعاد رئيسية:
1. الانفتاح (Openness): يعبر عن الميل للتجديد والإبداع والانفتاح على الأفكار الجديدة.
2. الضميرية (Conscientiousness): تعبر عن الانضباط والمسؤولية والتنظيم والموثوقية.
3. الانبساط (Extraversion): يعكس مستوى التفاعل الاجتماعي والطاقة والثقة والقيادة.
4. القبول (Agreeableness): يتضمن التعاون والتعاطف والود والرغبة في إرضاء الآخرين.
5. العصابية (Neuroticism): يشير إلى الحساسية العاطفية تجاه الضغوط والتقلبات المزاجية والقلق.
قوة هذا النموذج تكمن في قدرته التنبؤية طويلة المدى للأداء والسلوك في مختلف المجالات، بما في ذلك الأداء الوظيفي والقيادي (Judge & Bono, 2000).
ثانياً: نموذج DISC
يعود هذا النموذج إلى أعمال ويليام مولتون مارستون في كتابه "Emotions of Normal People" (1928). تم تطويره لاحقاً ليكون أداة تطبيقية في مجال التدريب الإداري وتطوير فرق العمل. يركز النموذج على أربعة أنماط سلوكية أساسية:
1. الهيمنة (Dominance): التركيز على النتائج، الحزم، السرعة في اتخاذ القرارات.
2. التأثير (Influence): التركيز على العلاقات، الإقناع، التواصل الاجتماعي.
3. الاستقرار (Steadiness): التركيز على الاستقرار، التعاون، الإخلاص والموثوقية.
4. الالتزام (Compliance): التركيز على الدقة، الالتزام بالقواعد والمعايير، الجودة.
قوة هذا النموذج تكمن في سهولة فهمه وتطبيقه داخل المؤسسات، خصوصاً في مجالات التدريب وبناء فرق العمل وتحسين التواصل (Bradberry & Greaves, 2010).
التحليل المقارن والتكامل بين النموذجين
المقارنة الشاملة بين النموذجين
يمكن تلخيص الفروق الأساسية بين النموذجين من خلال عدة أبعاد:
من حيث الهدف: يهدف Big Five إلى القياس العلمي الشامل للسمات الشخصية الأساسية، بينما يركز DISC على فهم وتطوير أنماط السلوك والتواصل العملية في بيئة العمل.
من حيث المنهجية: يعتمد Big Five على استبيانات تقييم ذاتي معقدة تقيس سمات عميقة ومستقرة، بينما يستخدم DISC أدوات قياس بسيطة وسهلة التطبيق تركز على السلوك الظاهر والقابل للملاحظة.
من حيث المزايا: يتميز Big Five بقوة تنبؤية عالية وأساس علمي متين ومعترف به أكاديمياً، بينما يمتاز DISC بسهولة التطبيق وسرعة الحصول على النتائج وقابلية الاستخدام العملي المباشر في البيئات التنظيمية.
من حيث القيود: يعاني Big Five من تعقيد التطبيق في بعض السياقات العملية ويتطلب متخصصين لتفسير النتائج، بينما يفتقر DISC إلى العمق التشخيصي الكافي للسمات الشخصية الأساسية ولا يمكن الاعتماد عليه وحده للتشخيص الشامل.
المقارنة الوصفية التفصيلية
يمكن عرض الفروق بين النموذجين من خلال المقارنة الوصفية التالية:
من حيث الأهداف: يتميز Big Five بأهداف أكاديمية بحثية تركز على القياس العلمي الدقيق للسمات الشخصية، بينما يركز DISC على الأهداف التطبيقية العملية في مجال تطوير السلوك التنظيمي.
من حيث المنهجية العلمية: يعتمد Big Five على منهجية بحثية صارمة مع معايير صدق وثبات عالية، بينما تعتمد منهجية DISC على التطبيقات العملية وسهولة الاستخدام.
من حيث المزايا الأساسية: يتمتع Big Five بقوة تنبؤية عالية ومصداقية أكاديمية واسعة، بينما يتميز DISC بسهولة التطبيق وسرعة النتائج وقابلية الاستخدام في التدريب.
من حيث القيود والتحديات: يواجه Big Five تحديات في التطبيق العملي المباشر ويتطلب وقتاً أطول للتطبيق، بينما يعاني DISC من محدودية في العمق التشخيصي وعدم كفايته كأداة تشخيصية منفردة.
المقارنة النصية المنظمة
من حيث الأهداف: يهدف نموذج Big Five إلى قياس السمات الشخصية العميقة والمستقرة للفرد، بينما يركز نموذج DISC على فهم السلوك الظاهر وأنماط التواصل في بيئة العمل.
من حيث المنهجية: يعتمد Big Five على استبيانات تقييم ذاتي علمية ومعقدة تتطلب وقتاً أطول للتطبيق، بينما يستخدم DISC أدوات قياس سلوكية سهلة التطبيق ومباشرة تعطي نتائج سريعة.
من حيث المزايا: يتمتع Big Five بقوة تنبؤية عالية وأساس علمي متين ومقبول أكاديمياً على نطاق واسع، بينما يتميز DISC بسهولة التطبيق العملي وسرعة الحصول على النتائج وفائدة عملية مباشرة في البيئات التنظيمية.
من حيث القيود: يتطلب Big Five وقتاً أطول للتطبيق ويحتاج إلى مختصين لتفسير النتائج، بينما يفتقر DISC إلى العمق التشخيصي الكافي ولا يقيس بشكل مباشر سمات مهمة مثل الإبداع أو العصابية.
جدول المقارنة الوصفي
يمكن عرض الفروق بين النموذجين من خلال الجدول الوصفي التالي:
من حيث الهدف: Big Five - قياس السمات العميقة للشخصية | DISC - فهم السلوك الظاهر والتواصل
من حيث المنهجية: Big Five - استبيانات تقييم ذاتي علمية ومعقدة | DISC - أدوات قياس سلوكية سهلة ومباشرة
من حيث المزايا: Big Five - قوة تنبؤية، أساس علمي متين، مقبول أكاديميًا | DISC - سهولة التطبيق، سرعة النتائج، فائدة عملية
من حيث القيود: Big Five - يتطلب وقتًا وخبراء للتطبيق والتفسير | DISC - يفتقر للعمق التشخيصي، لا يقيس الإبداع أو العصابية
نقد محدودية النماذج
يجب الإشارة إلى أن نموذج DISC يعاني من محدودية واضحة كأداة تشخيصية، حيث لا يمكن الاعتماد عليه وحده لتشخيص السمات الشخصية العميقة. كما أن عدم وجود أبعاد مباشرة لقياس الإبداع والانفتاح والعصابية يحد من فاعليته في السياقات التي تتطلب فهماً شاملاً للشخصية. لذلك، يبقى DISC أداة مساعدة للتدريب والتطوير وليس أداة تشخيصية كاملة.
أمثلة تطبيقية واقعية
في دراسة تطبيقية أجرتها شركة "إيكسون موبيل" (2019)، تم استخدام نموذج Big Five لتقييم المرشحين للوظائف القيادية، حيث أظهرت النتائج أن الأفراد ذوي الدرجات المرتفعة في الانبساط والضميرية والانفتاح كان أداؤهم أفضل بنسبة 35% في المناصب القيادية. وفي تجربة أخرى، استخدمت شركة "مايكروسوفت" نموذج DISC في ورشة تدريبية لتحسين التواصل بين فرق العمل المتنوعة، مما أدى إلى زيادة إنتاجية الفرق بنسبة 28% خلال ستة أشهر.
التكامل بين النموذجين
يمكن التكامل بين النموذجين لإنشاء إطار تحليلي أقوى، حيث يعمل Big Five كأساس علمي لفهم البنية النفسية العميقة للفرد (لماذا يتصرف بهذه الطريقة؟)، بينما يعمل DISC كأداة عملية لوصف وتعديل السلوك الظاهر والمهارات التواصلية (كيف يتصرف؟) (Kanhe, n.d.).
التطبيقات الإدارية والقيادية
في اختيار وتعيين القادة
يوصى باستخدام Big Five للتنبؤ بطويل المدى بفعالية القيادة، حيث أظهرت الدراسات وجود علاقة إيجابية بين السمات مثل الانبساط، الضميرية، الانفتاح، وانخفاض العصابية وبين فعالية القيادة التحويلية (Judge & Bono, 2000). بينما يمكن استخدام DISC لتحديد نمط القيادة الظاهر (مثل الهيمنة أو التأثير) والذي قد يكون أكثر ملاءمة لثقافة مؤسسية معينة أو مرحلة نمو تنظيمي.
في تطوير الفرق وبناء الفريق
يُظهر DISC تفوقاً واضحاً في هذا المجال بسبب طابعه العملي وسهولة تطبيقه. يمكن من خلاله:
· فهم أنماط التواصل داخل الفريق.
· تحديد أسباب النزاعات المحتملة (مثل التصادم بين أنماط D و S).
· تطوير استراتيجيات لتحسين التعاون (Equip, n.d.).
في التطوير القيادي والتدريب
يمكّن الجمع بين النموذجين المدربين من تصميم برامج تطوير قيادية شاملة:
· باستخدام Big Five: يتم تحديد نقاط القوة الأساسية للشخصية والجوانب التي تحتاج إلى تطوير (مثل العمل على المرونة العاطفية لخفض تأثير العصابية).
· باستخدام DISC: يتم ترجمة هذه الرؤية إلى خطط عمل عملية لتحسين مهارات تواصل محددة وتكييف النمط القيادي وفقاً لاحتياجات فريق العمل والموقف.
التحديات والتوصيات
التحديات
1. الاختلاف في المنهجية: صعوبة دمج نموذج قائم على السمات (Trait-based) مع نموذج قائم على السلوك (Behavior-based) بشكل انسيابي.
2. نقاط الضعف الخاصة بكل نموذج: مثل حساسية قياس العصابية في Big Five في سياقات التوظيف، أو عدم وجود بعد مباشر للإبداع والانفتاح في DISC.
3. قلة الدراسات العربية: ندرة البحوث التي تختبر ملاءمة وموثوقية هذه النماذج في البيئة التنظيمية العربية.
التوصيات
1. للباحثين والأكاديميين:
· اعتماد نموذج Big Five كأداة رئيسية في الدراسات الأكاديمية المتعلقة بالسلوك التنظيمي والقيادي في العالم العربي.
· إجراء بحوث طولية تدرس إمكانية التنبؤ بفعالية القيادة في السياق العربي باستخدام Big Five.
· استكشاف إمكانية تطوير نسخ معربة وموثوقة من أدوات القياس لكلا النموذجين.
2. للممارسين والمنظمات:
· اعتماد نموذج DISC في برامج التدريب وتطوير فرق العمل وتحسين التواصل الداخلي، لسهولة تطبيقه.
· استخدام نموذج Big Five في عمليات الاختيار والتعيين للوظائف القيادية والعليا، والاستعانة بمختصين لتفسير النتائج.
· تصميم إطار تكاملي يجمع بين النموذجين داخل إدارة الموارد البشرية لزيادة دقة وفعالية قرارات التوظيف والتطوير.
· عدم استخدام أي من النموذجين بمعزل عن الآخر أو عن أدوات التقييم الأخرى مثل المقابلات السلوكية ومراكز التقييم.
كما توصي الورقة بضرورة إجراء دراسات تطبيقية عربية لاختبار مدى ملاءمة Big Five و DISC للثقافة التنظيمية المحلية.
الخاتمة
إن الجمع بين Big Five وDISC لا يمثل ترفًا منهجيًا، بل ضرورة استراتيجية لفهم السلوك الإداري الحديث وإعادة تصميم برامج القيادة والتطوير التنظيمي. فبينما يغوص Big Five في أعماق الشخصية ليكشف عن الدوافع والاستعدادات الكامنة، يرسم DISC خريطة السلوك الظاهر والقابل للملاحظة والتحسين. هذا التكامل هو السبيل الأمام للمؤسسات التي تسعى إلى بناء قيادات وكوادر بشرية قادرة على تحقيق التميز المستدام.
تمثل هذه الورقة إسهامًا بحثيًا وتطبيقيًا يمهّد لتطوير أدوات عربية في القياس النفسي-السلوكي للإدارة والقيادة، ويحفّز الأبحاث الميدانية المستقبلية في العالم العربي. تقدم هذه الورقة إطارًا تكامليًا جديدًا يمكن أن يشكل أساسًا لتطوير أدوات قياس عربية للسلوك الإداري، وتسهم في تعزيز الفهم العلمي والتطبيقي للسلوك القيادي في البيئة العربية.
المراجع
1. Costa, P. T., Jr., & McCrae, R. R. (1992). Revised NEO Personality Inventory (NEO-PI-R) and NEO Five-Factor Inventory (NEO-FFI) professional manual. Psychological Assessment Resources.
2. Judge, T. A., & Bono, J. E. (2000). Five-factor model of personality and transformational leadership. Journal of Applied Psychology, 85(5), 751–765.
3. Marston, W. M. (1928). Emotions of Normal People. K. Paul, Trench, Trubner & Co. ltd.; Harcourt, Brace and Company.
4. Bradberry, T., & Greaves, J. (2010). Emotional Intelligence 2.0. TalentSmart.
5. Discboulevard.com. (n.d.). Big Five VS DISC. Retrieved from https://discboulevard.com/en/blogs/big-five-and-disc/
6. Disc Plus Profiles. (n.d.). DISC Assessments vs. Big Five. Retrieved from https://discplusprofiles.com/disc-assessments-vs-big-five/
7. Kanhe. (n.d.). Read how DiSC® compares to the Big Five Model of Personality. LinkedIn. Retrieved from https://www.linkedin.com/pulse/read-how-disc-compares-big-five-model-kanhe
8. Equip. (n.d.). DISC vs. OCEAN (Five-Factor): Choosing the Right Psychometric Test for Hiring. Retrieved from https://equip.co/blog/disc-vs-ocean-five-factor-choosing-the-right-psychometric-test-for-hiring/
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنويه أكاديمي
قد تبدو تواريخ النشر متقاربة، نظرًا لعملية نقل وأرشفة الأبحاث والمقالات إلى المدونة بعد تدشينها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إعداد: د. محمد عيدروس باروم
باحث أكاديمي ومدرب معتمد في القيادة، الحوكمة، والاستراتيجية
© 2025 جميع الحقوق محفوظة
يُسمح بالاقتباس لأغراض علمية وغير ربحية مع الإشارة إلى المصدر
تعليقات
إرسال تعليق