حوكمة الأوقاف: من الضبط الداخلي إلى الاستدامة المؤسسية



تتناول هذه الورقة العلمية مكونات الحوكمة الوقفية من منظور شرعي ومؤسسي، مركزة على ثلاث ركائز:

(1) ضبط القيادة الداخلية.

(2) الوقاية من المخاطر.

(3) الالتزام بالضوابط الشرعية والنظامية.

وتُظهر الدراسة أن استقرار الوقف لا يتحقق فقط بأنظمة رقابية خارجية، بل يبدأ من وعي داخلي مؤسسي يستلهم مقاصد الشريعة وقواعد الإدارة الرشيدة.


مقدمة

في زمن تتعاظم فيه التحديات أمام المؤسسات الوقفية، تبرز الحاجة إلى حوكمة رشيدة تُعيد للوقف مكانته كأداة تنموية مستدامة. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال ضبط داخلي نابع من التزامات شرعية، وممارسات مؤسسية، واستحضار لمقصد الواقف، دون انحراف أو تسيّب. ومن هنا، يتأسس هذا المقال على استقراء النصوص، وتحليل الممارسات، وتقديم نماذج عملية من التراث الوقفي.


أولًا: حوكمة الأوقاف – ضبط القيادة الداخلية

يقوم الضبط الداخلي في الأوقاف على ثلاثة مبادئ تأسيسية:

1. العدل في التوزيع

تنص الآية: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (المعارج: 24-25).

وهو توجيه لتخصيص الريع بدقة وفق شروط الواقف، دون تمييز، وبما يضمن العدالة الاجتماعية الوقفية.


2. الشورى في القرارات

في قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: 38) دليل على أهمية تكوين هيئة شورى داخلية (مثل: هيئة النظار) لتداول القرارات المفصلية بعيدًا عن الانفراد بالسلطة.


3. النزاهة في الإدارة

حديث: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِأَدَاءِ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا» (رواه مسلم).

ومنه تنشأ ضرورة الفصل بين الواقف والناظر والمستفيد، بما يمنع تعارض المصالح ويُحقق مبادئ النزاهة المؤسسية.


ثانيًا: إدارة مخاطر الأوقاف – وقاية استباقية

يندرج ضبط المخاطر في الوقف ضمن واجب الحفظ، الذي يتجاوز الحماية من التلف إلى بناء استدامة حقيقية، ويمكن تفصيل أبرز أنواع المخاطر ووسائل الوقاية الشرعية منها على النحو التالي:


1. خطر التبديد المالي

يُواجه الوقف هذا النوع من المخاطر عند ضعف الرقابة على موارد الوقف أو إساءة التصرف بها. وتكمن الوقاية الشرعية في توثيق شروط الواقف في سجلات رسمية مختومة ومعتمدة، استنادًا إلى توجيه النبي ﷺ: «اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ» (رواه البخاري)، وهو أصل في اعتماد التوثيق كوسيلة لحماية الحقوق المالية ومنع النزاع والتحريف.


2. خطر تلف العقارات

يتمثل هذا الخطر في إهمال صيانة الأعيان الوقفية، مما يؤدي إلى تآكل الأصول أو فقدان منافعها. ويدل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تَبِعْ قُرى الضَّيْعَةِ"، على وجوب الحفاظ على الأصل وعدم التفريط فيه، ويفهم منه التوجيه بالصيانة الدورية والمراقبة المستمرة لحالة العقارات الوقفية.


3. خطر انحراف التوزيع

ويقصد به عدم إيصال الريع إلى المستحقين الحقيقيين، إما بسبب فساد إداري، أو انقطاع التحديث لقوائم المستحقين. ويُستند إلى قوله تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ﴾ (الحشر: 7)، ما يدل على وجوب تحقيق العدالة في التوزيع، ومراجعة تلك القوائم دوريًا لضمان التزام الوقف بمقاصده الاجتماعية والاقتصادية.


ثالثًا: الالتزام في الأوقاف – انضباط ذاتي نابع من المقصد

الالتزام لا يُقاس بالرقابة فقط، بل بمدى احترام النية الأصلية للواقف، وفق المبادئ الآتية:


1. الوفاء بشرط الواقف

استنادًا إلى الحديث: «المسلمون على شروطهم» (رواه أبو داود)، فإن أي تغيير في غرض الوقف يُعد خيانة للأمانة، ما لم تُغيّره الضرورة وفق الضوابط الشرعية.


2. المساءلة الداخلية

ورد عن علي بن أبي طالب: "العين أمين الله على ماله"، ما يدل على أهمية وجود مراجعة سنوية أمام هيئة النظار.


3. الشفافية مع المستفيدين

تحقيق الشفافية يتطلب الإفصاح الواضح عن موارد الوقف ومصارفه، لقوله تعالى: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الطلاق: 12).


نموذج تطبيقي من السنة العملية

التحوط من مخاطر الاستثمار

نهى عمر بن الخطاب عن تأجير الأرض الموقوفة أكثر من ثلاث سنوات؛ خشية تعطل الغرض أو تسلط المستأجر، وهو نموذج متقدم للحوكمة الوقفية الوقائية (الموطأ).


الالتزام بالغرض الأصلي

لا يجوز تحويل وقف قرآني إلى غرض آخر إلا إذا تعطل الغرض الأصلي تمامًا، وبموافقة الجهة المختصة، ضمانًا لمقصد الواقف.


الخاتمة

يتضح من العرض أن حوكمة الأوقاف لا تقتصر على اللوائح والإجراءات، بل تنبع من تكامل بين:

▪︎ المرجعية الشرعية (شروط الواقف، المقاصد، النصوص)،

▪︎ البنية المؤسسية (هيئة النظار، المحاسبة، الشفافية)،

▪︎ الضبط الذاتي (الإخلاص، الأمانة، مراقبة الله).

وهذا التمازج هو ما يُحقق التوازن بين الامتثال الشرعي والكفاءة المؤسسية، دون الحاجة إلى تدخل خارجي دائم.

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ (فصلت: 46)

فما يُبنى من الداخل يبقى، وما يُحكم بالهوى يهوي.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تنويه أكاديمي

قد تبدو تواريخ النشر متقاربة، نظرًا لعملية نقل وأرشفة الأبحاث والمقالات إلى المدونة بعد تدشينها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إعداد: د. محمد عيدروس باروم

باحث أكاديمي ومدرب معتمد في القيادة، الحوكمة، والاستراتيجية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة

يُسمح بالاقتباس لأغراض علمية وغير ربحية مع الإشارة إلى المصدر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عقدة المنصب الجديد: الآليات السيكوسوسيولوجية لتقزيم الماضي وبناء الشرعية الزائفة في القيادة - إعداد: د. محمد عيدروس باروم

استراتيجيات عملية لتعزيز الإنتاجية والرضا الوظيفي - اعداد: د. محمد عيدروس باروم

مؤشرات المخاطر القيادية ودورها في استدامة المنظمات اعداد: د. محمد عيدروس باروم