إدارة الخلافات في بيئة العمل السعودية.. من تحدٍّ إلى فرصة للإبداع د. محمد عيدروس باروم باحث مستقل ومدرب معتمد في القيادة والحوكمة والاستراتيجية




تعد بيئات العمل الحديثة بوتقة تنصهر فيها الخبرات والثقافات والأجيال المختلفة، مما يخلق بيئة خصبة للاختلافات. لكن هذه الاختلافات ليست بالضرورة معوقًا للأداء، بل يمكن تحويلها إلى محركات للإبداع إذا أُحسنت إدارتها. في السوق السعودي الذي يشهد تحولات اقتصادية وتنوعًا ثقافيًا ملحوظًا، حيث تضم المملكة أكثر من 30 جنسية، تبرز إدارة الخلافات كأحد ركائز النجاح المؤسسي.

الخلافات في العمل نوعان: خلاف مثمر وخلاف مدمر. الأول يتمثل في الاختلاف البناء حول الأفكار أو الاستراتيجيات، وهو محور التطور المؤسسي. كما تشير الدراسات، فإن تعدد وجهات النظر يحسن جودة القرارات ويولد حلولًا مبتكرة. أما الثاني فينشأ من سوء التواصل أو التمييز، ويؤدي إلى انخفاض الإنتاجية بنسبة تصل إلى 40% بسبب استنزاف الطاقة في الصراعات الشخصية، وارتفاع معدل دوران الموظفين مما يكبد الشركات تكاليف توظيف وتدريب جديدة.

في البيئات السعودية المتنوعة، تعود أسباب الخلافات غالبًا إلى التباين الثقافي والاجتماعي الذي قد يؤدي إلى سوء الفهم، أو عدم وضوح الأدوار، وهو سبب رئيسي لـ60% من النزاعات وفقًا لجمعية إدارة الموارد البشرية. كما تساهم الإدارة المركزية في تهميش آراء الموظفين وزيادة الاحتقان، خاصة لدى الأجيال الشابة التي تفضل المشاركة، إضافة إلى مشكلات التمييز بجميع أشكاله.
لتحويل هذه الصراعات إلى تعاون، يمكن تطبيق أربع استراتيجيات فعّالة: أولًا، بناء ثقافة الحوار عبر تشجيع النقاش المفتوح في الاجتماعات مع استخدام لغة أنا بدلًا من أنت لتجنب إلقاء اللوم، واللجوء للوساطة كما تطبقها شركات سعودية كبرى مثل أرامكو وسابك، حيث يعمل وسيط محايد لتقريب وجهات النظر. ثانيًا، تمكين القيادات عبر تدريبها على المهارات الناعمة كالتواصل الفعال وإدارة المشاعر، فالشركات التي تدرب مديريها تشهد انخفاضًا بنسبة 35% في النزاعات، وأن يكون المديرون قدوة في الإنصاف، مما يقلل الشكاوى بنسبة 50%. ثالثًا، إنشاء آليات مؤسسية كسياسات واضحة مثل لجان حل النزاعات في البنوك السعودية التي تنظر في الخلافات خلال 72 ساعة، والتقييم المبكر للمناخ الوظيفي عبر استبيانات دورية. رابعًا، استثمار التنوع الثقافي كما في مشروعات نيوم والقدية التي تستخدم فرق العمل المختلطة وورش التعريف بالعادات كأدوات للإبداع.

تلعب الحوكمة دورًا محوريًا في منع تصعيد الخلافات. العلاقة الواضحة بين مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية تقلل صراعات السلطة، وتطبيق معايير هيئة السوق المالية يضمن المساءلة والشفافية في الترقيات وتوزيع الموارد.

والأهم أن الخلافات يمكن أن تتحول إلى فرص، كما حدث في شركة الاتصالات السعودية عام 2023 عندما حولت نزاعًا حول رقمنة الخدمات إلى جلسات عصف ذهني شارك فيها جميع الأطراف، ما نتج عنه حل هجين زاد رضا العملاء بنسبة 20%.
للشركات السعودية الراغبة في تحويل الخلافات إلى إبداع، نقترح خارطة طريق بثلاث خطوات: التدخل السريع عند أولى مؤشرات التوتر، كانسحاب الموظفين من النقاشات، والحرص على العدالة عبر حلول متوازنة، وتوثيق الدروس المستفادة من كل نزاع لبناء آليات وقائية.

كما يلخص د. علي العمران، أستاذ الإدارة بجامعة الملك سعود:
الخلاف ليس سلبيًا بطبيعته، فالنار تُذيب الحديد لكنها تُشكل الفولاذ.

الخلاصة أن إدارة الخلافات فن وعلم ضروري للاقتصاد السعودي الطموح. الشركات التي تتقنه تحقق زيادة 30% في الإنتاجية وتعزز سمعتها لجذب المواهب. والتحول من ثقافة إسكات الخلاف إلى احتضان الاختلاف هو الاستثمار الأضمن لاستدامة المؤسسات.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عقدة المنصب الجديد: الآليات السيكوسوسيولوجية لتقزيم الماضي وبناء الشرعية الزائفة في القيادة - إعداد: د. محمد عيدروس باروم

استراتيجيات عملية لتعزيز الإنتاجية والرضا الوظيفي - اعداد: د. محمد عيدروس باروم

مؤشرات المخاطر القيادية ودورها في استدامة المنظمات اعداد: د. محمد عيدروس باروم