كشف التلاعبات في الأوقاف: تحليل شرعي وقانوني لانحرافات النظار ومجالس النظارة والإدارة التنفيذية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرع الوقف، وجعل فيه أجرًا جاريًا، وبرًّا لا ينقطع، وصلاحًا للأمم في معاشهم ومعادهم، والصلاة والسلام على من سنَّ الوقف ورغّب فيه، محمدٍ النبي الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد،
فإن من نعم الله على الأمة الإسلامية أن شرع لها نظام الوقف، الذي جسّد أعلى صور التضامن الاجتماعي، والتنمية المستدامة، والتكافل بين الأجيال. غير أن ما أصاب هذه المؤسسة من مظاهر الخلل والانحراف في الإدارة، وسوء الأمانة من بعض القائمين عليها، يُعد خطرًا يهدد جوهرها ويفسد ثمارها. ومن هنا، تأتي هذه الورقة لتسلّط الضوء على صور التلاعبات التي يقع فيها النظار ومجالس النظارة والإدارات التنفيذية، وتحليلها من منظور شرعي وقانوني، مع طرح آليات عملية للكشف والوقاية والإصلاح.
المقدمة
الوقف أحد أعمدة الحضارة الإسلامية، يجسد البذل والتكافل ويخلّد أثر الواقف في ميزان حسناته. وقد أكّد القرآن الكريم على قدسية هذا العطاء: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92]. غير أن المؤسسة الوقفية، ورغم رسوخها، تواجه اليوم تحديات مقلقة، أبرزها التلاعب الإداري والمالي الذي يُمارسه بعض النظار أو مجالس النظارة أو حتى إدارات الأوقاف التنفيذية، تحت مبررات ظاهرها "مصلحة الوقف" وباطنها المنفعة الخاصة أو التحايل على الضوابط الشرعية والنظامية.
وتُظهر التقارير الحديثة أن ما يقرب من 40% من الأوقاف الكبرى تعاني من تضارب مصالح غير معلن، فيما يُقدّر الهدر السنوي في الأوقاف الصغيرة بـ30% نتيجة سوء الإدارة، وهو ما يستوجب وقفة علمية، ومراجعة جادة، وإصلاح حوكمي عميق.
أولًا: الإطار الشرعي والقانوني لنظارة الوقف
1. الطبيعة الشرعية للنظارة
الناظر في الفقه الإسلامي ليس مالكًا ولا مستفيدًا، بل هو وكيل عن الواقف ونائب عن بيت المال، وتلحقه أحكام الأمانة، قال ﷺ: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيّته". ويجمع الفقهاء على أن النظارة:
▪︎ تكليف لا تشريف.
▪︎ توجب الولاء للمصلحة الوقفية، والعناية الكافية، والشفافية المطلقة.
▪︎ لا تجيز التصرّف إلا بما يحقق مقاصد الوقف وبحدود شرط الواقف.
2. الأساس النظامي والقانوني للنظارة
نصّت لائحة تنظيم أعمال النظارة في المملكة العربية السعودية على التزامات صارمة، منها:
▪︎ حظر تضارب المصالح (م12).
▪︎ الالتزام بالإفصاح والشفافية (م10/3).
▪︎ تسليم القوائم المالية المدققة.
▪︎ تمكين المستحقين من الاطلاع على الوثائق الوقفية.
ووفقًا لظام الأوقاف، فإن كل تصرف مالي أو إداري بقصد الإضرار بالوقف أو تحقيق منفعة غير مشروعة يُعد جريمة يعاقب عليها بالعزل والغرامة، بل وبالتحويل للنيابة العامة إن تضمن اختلاسًا أو تزويرًا.
ثانيًا: صور التلاعبات الوقفية وتحليلها
1. التلاعبات المالية
▪︎ تحويل الريع الوقفي إلى مشاريع شخصية أو أسرية تحت ذريعة "مصلحة الوقف".
▪︎ مكافآت باطلة للنظار تتجاوز النسبة الشرعية المقررة (5% من صافي العائد)، دون تفويض نظامي أو موافقة قضائية.
▪︎ إخفاء أو تحوير العائدات المالية لخفض الرقابة أو تفادي التوزيع العادل على المستحقين.
2. التلاعبات الإدارية والتنظيمية
▪︎ الناظر المنشغل: من يشرف على أكثر من ثلاث أوقاف كبرى، ما يؤدي إلى ضعف فاعلية المتابعة بنسبة تصل إلى 75%، وتراجع جودة التقارير الرقابية.
▪︎ مجالس النظارة المنهكة: التي تضم أعضاءً في عدة عضويات متقاطعة، فينخفض التركيز الرقابي ويزداد التساهل في تمرير التعيينات والتعويضات.
▪︎ إهمال فصل ضعاف الأداء من المسؤولين التنفيذيين، لأسباب علاقات أو تبادل منافع.
3. التلاعبات العقارية
▪︎ تأجير الأصول الوقفية بأسعار متدنية لأشخاص مرتبطين بالناظر دون إعلان منافسة.
▪︎ تصرف غير مشروع بالأصول كبيع أو استبدال دون حكم قضائي، وتحت حجج "الإعسار" أو "التنمية".
▪︎ التقصير في تحصيل الإيجارات، مما يؤدي إلى حرمان المستحقين من حقوقهم.
4. نظام تبادل المصالح تحت غطاء الوقف
أحد أخطر أنماط التلاعب المعاصرة يتمثل في إنشاء شبكات من المصالح المتبادلة بين الناظر وجهات أو مؤسسات أو أفراد، لاستغلال الوقف في تحقيق مكاسب خاصة، ويأخذ صورًا منها:
▪︎ تمرير عقود لصالح شركات للناظر أو أقاربه تحت غطاء "مشاريع وقفية".
▪︎ عقد شراكات ظاهرها النفع الوقفي، وباطنها مصلحة تجارية شخصية.
▪︎ التنسيق غير المعلن بين أوقاف متعددة لتبادل الخدمات والمنافع مقابل التغاضي عن المخالفات.
الحكم الشرعي: هذا النمط يدخل في باب الغلول والخيانة، ومخالف لمقاصد الوقف، ولا يُبرره ما يُروّج له من مصالح محتملة.
الحكم القانوني: يُعد تضارب مصالح فاضح يستوجب العزل والتحقيق.
ثالثًا: آليات الكشف والوقاية – إطار إصلاحي مقترح
1. الرقابة الشرعية
▪︎ تشكيل لجان مستقلة لإجراء تدقيق شرعي دوري، تراجع التزام العقود والنشاطات بضوابط الوقف وشرط الواقف.
▪︎ تقييم أداء الناظر دوريًا بمعيار "الأمانة والكفاية"، وعدم الاكتفاء بتاريخ العائلة أو الشهرة.
2. الرقابة القانونية والإدارية
▪︎ إلزام النظار ومجالس النظارة بالإفصاح عن كل المصالح والعلاقات الشخصية.
▪︎ تحديد عدد الأوقاف المسموح بالنظارة عليها بثلاث كحد أقصى.
▪︎ إنشاء أنظمة رقمية رقابية تعمل بالذكاء الاصطناعي لرصد الأنماط غير الطبيعية في الإنفاق والتعاقد.
▪︎ تحويل الرقابة من يدوية دورية إلى مستمرة وآنية.
3. تمكين المستحقين من الرقابة
▪︎ تفعيل منصات رقمية شفافة (مثل "تواصل" التابعة للهيئة العامة للأوقاف) تتيح للمستحقين:
▪︎ الوصول إلى تقارير الأداء.
▪︎ متابعة التوزيع.
▪︎ الإبلاغ عن التجاوزات بسرية تامة.
رابعًا: دراسات حالة تحليلية
▪︎ الحالة الأولى: وقف تعليمي في الرياض
المخالفة: توقيع عقد صيانة بـ2 مليون ريال مع شركة يملكها ابن الناظر.
الكشف: عبر مراجعة المنافسات والسجل التجاري.
العقوبة: عزل الناظر، تغريمه، وإلزامه برد الأموال.
▪︎ الحالة الثانية: وقف خيري في القاهرة
المخالفة: بيع أصل وقفي بـ40% أقل من سعر السوق.
الكشف: بواسطة المراجع المالي.
الإجراء: إيقاف الصفقة واسترداد الأصل عبر القضاء.
الخاتمة والتوصيات
أثبت التحليل أن أخطر الانحرافات في إدارة الوقف تتمثل في:
1. ثقافة التملك الضمني للوقف من بعض النظار.
2. استخدام النفوذ لتمرير التعيينات والتعاقدات دون شفافية.
3. ضعف أدوات الرقابة التقليدية، وغياب المساءلة الذكية.
التوصيات العملية
▪︎ إصدار نظام موحد لحوكمة الأوقاف ينظّم: التعيين، العزل، الرقابة، والمكافآت.
▪︎ ربط الأوقاف بمنصة موحدة للشفافية تعتمد KPIs لحوكمة الأداء.
▪︎ تبنّي بطاقة أداء النزاهة الوقفية (Governance Integrity Scorecard).
▪︎ إدراج أخلاقيات النظارة والحوكمة الوقفية في المناهج الجامعية.
▪︎ اعتماد نموذج تقييم شامل للنظار مبني على النزاهة، الإفصاح، الأداء، والكفاءة.
"نظارة الوقف مسؤولية ممتدة بين الأرض والسماء. من خانها، فليس له عذر في الدنيا، ولا حجة في الآخرة."
ختامًا
يعد ما تقدم من تحليلٍ علمي وشرعي وقانوني لواقع التلاعبات في منظومة الأوقاف، فإن هذه الورقة لا تدّعي الإحاطة، لكنها تطرح رؤى إصلاحية ومخرجات قابلة للتطبيق، تستند إلى تأصيل رصين، ومعرفة واقعية، وتجارب موثقة.
نسأل الله تعالى أن يُعيد للأوقاف مجدها، وللنظار أمانتهم، وللمستحقين حقوقهم، وأن يُبارك في جهود الإصلاح والمحاسبة والحوكمة، وأن يجعل هذا الجهد خالصًا لوجهه الكريم، ونواةً لمشروع تصحيح مسارٍ طال انتظاره.
اللهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المراجع
1. الهيئة العامة للأوقاف (2021م). لائحة تنظيم أعمال النظارة.
2. النظام الأساسي للأوقاف – وزارة العدل السعودية.
3. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية.
4. الأدبيات الحديثة في الحوكمة المؤسسية – OECD.
5. دراسات منشورة في مجلة الأوقاف السعودية، جامعة الإمام محمد بن سعود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنويه أكاديمي
قد تبدو تواريخ النشر متقاربة، نظرًا لعملية نقل وأرشفة الأبحاث والمقالات إلى المدونة بعد تدشينها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إعداد: د. محمد عيدروس باروم
باحث أكاديمي ومدرب معتمد في القيادة، الحوكمة، والاستراتيجية
© 2025 جميع الحقوق محفوظة
يُسمح بالاقتباس لأغراض علمية وغير ربحية مع الإشارة إلى المصدر
تعليقات
إرسال تعليق