العلاقة بين ناظر الوقف والمستحقين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرع الوقف تشريعًا محكمًا، فجعل فيه صدقة جارية، وموردًا مستدامًا، ووسيلةً لتحقيق التكافل والبر، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الموقوف عليه أول بيت، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد...
فإنَّ نظام الوقف في الشريعة الإسلامية يُعدُّ من أعظم ما جاء به الإسلام من تشريعات تعبّدية وتنموية، جمع بين بُعد الأجر الأخروي، والوظيفة المجتمعية الدنيوية. وقد حظيت العلاقة بين ناظر الوقف والمستحقين بأهمية خاصة، لما تمثّله من ركيزة لضمان استمرار الأوقاف، وعدالة توزيع منافعها، وتحقيق مقاصد الواقفين.
ولما كانت هذه العلاقة محلّ تداخل بين الأحكام الشرعية، والأنظمة الحديثة، والممارسات الواقعية؛ كان من اللازم بيان ضوابطها، واستعراض حقوق وواجبات أطرافها، وتفصيل ما استقر عليه الفقهاء والتنظيمات المعاصرة من قواعد حاكمة لها، خدمةً لقطاع الأوقاف، وإحياءً لسنتها، وحفاظًا على عدالتها وشفافيتها واستدامتها.
تعتبر العلاقة بين ناظر الوقف والمستحقين حجر الزاوية في استدامة الأوقاف وتحقيق مقاصد الواقفين. فهي علاقة قائمة على الأمانة والعدالة والالتزام بالشرع والقانون، وتخضع لضوابط دقيقة في الفقه الإسلامي والتشريعات الحديثة.
أولاً: التعريف بالأطراف:
1. ناظر الوقف (متولي الوقف): هو الشخص أو الهيئة المكلفة من قبل الواقف أو المحكمة أو الجهة الإدارية المختصة (حسب النظام) بإدارة شؤون الوقف، والمحافظة عليه، وتنميته، وتوزيع ريعه على المستحقين وفقاً لشروط الواقف وأحكام الشريعة والقانون. فهو بمثابة الأمين والوكيل والمدير.
2. المستحقون (الموقوف عليهم): هم الأفراد أو الجهات المحددون في حجة الوقف (الوقفية) أو المنصوص عليهم شرعاً (كالفقراء والمساكين في الأوقاف العامة) الذين يُصرف لهم ريع الوقف أو ينتفعون به مباشرة وفق شروط الواقف. حقهم حق عيني تبعي مرتبط بعين الوقف.
ثانياً: الأسس الفقهية والشرعية المنظمة للعلاقة:
تقوم العلاقة على مجموعة من المبادئ الشرعية والفقهية الراسخة:
1. الالتزام بشروط الواقف: يُعتبر شرط الواقف مقدساً ما لم يخالف الشرع أو يستحيل تنفيذه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم" (رواه أبو داود وصححه الألباني)، ويقول الفقهاء: "شرط الواقف كنص الشارع". وهذا يعني:
▪︎ تحديد المستحقين: على الناظر التوزيع بدقة على من سماهم الواقف بالترتيب والنصيب المحدد.
▪︎ تحديد كيفية الانتفاع: سواء نقداً أو عيناً أو سكناً أو تعليماً.. الخ.
▪︎ تحديد الأولويات: عند التعارض أو نقص الريع.
2. الأمانة والعدل (النيابة الأمينة): الناظر أمين على مال الوقف وحقوق المستحقين.
▪︎ قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا" (النساء: 58).
▪︎ قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ" (النحل: 90).
▪︎ يجب على الناظر تجنب الغش، الخيانة، المحاباة، أو التهاون في حفظ الوقف أو توزيع ريعه. أي تفضيل مستحق على آخر بدون وجه حق يعد خيانة للأمانة وظلماً.
3. تحقيق مقاصد الوقف: الهدف الأسمى هو استمرار عين الوقف ووصول منفعته إلى المستحقين.
▪︎ العناية بالعقار: صيانته، إصلاحه، استثماره بما يحقق أعلى ريع مشروع دون إتلافه. (قال ابن قدامة في المغني: "ويجب على الناظر حفظ الوقف وصيانته وترميمه...").
▪︎ العدالة في التوزيع: ضمان وصول الحقوق كاملة في وقتها دون مماطلة أو نقص غير مبرر.
▪︎ الشفافية: إثبات التصرفات المالية والإدارية وحفظ السجلات.
4. المصلحة المرسلة واجتهاد الناظر: في المسائل غير المنصوص عليها في شرط الواقف والتي لا تخالف الشرع، للناظر حق الاجتهاد لتحقيق المصلحة للوقف والمستحقين، كاختيار أنجع طرق الاستثمار أو كيفية الصيانة، بشرط عدم الإضرار بحقوق أحد.
5. الولاية والمسؤولية: الناظر له ولاية التصرف في شؤون الوقف ضمن حدود نيابته (الوكالة). ومسؤوليته تجاه:
▪︎ الواقف: بتنفيذ شروطه.
▪︎ المستحقين: بحفظ حقوقهم وصرفها لهم.
▪︎ الجهة الرقابية (المحكمة/الهيئة): بتقديم الحسابات والتقارير.
ثالثاً: واجبات الناظر تجاه المستحقين (الجانب العملي للعلاقة)
1. التوزيع العادل والدوري: صرف الأنصبة المقررة للمستحقين في أوقاتها المحددة (شهرياً، سنوياً..) حسب شرط الواقف، دون تمييز أو محاباة. (المادة 13 من اللائحة التنفيذية لنظام الأوقاف السعودي).
2. الإعلام والشفافية:
▪︎ إبلاغ المستحقين بحقوقهم ونصيبهم.
▪︎ إطلاعهم (أو من ينوب عنهم) على حسابات الوقف وبيانات التوزيع عند الطلب أو حسب النظام. (مبدأ عام في الفقه مستمد من الأمانة).
3. الرعاية في الأوقاف العينية: إذا كان الانتفاع مباشراً (كالسكن في عقار موقوف)، فعلى الناظر:
▪︎ صيانة العقار وصيانته ليكون صالحاً للانتفاع.
▪︎ معالجة المشاكل التي تعترض المستفيدين (تسرب مياه، أعطال..).
▪︎ التأكد من انتفاع المستحقين الحقيقيين وعدم استيلاء غيرهم.
4. الدفاع عن حقوقهم: اتخاذ الإجراءات القانونية ضد من يعتدي على حقوق المستحقين أو على عين الوقف نفسه.
5. العدل عند نقص الريع أو تعدد المستحقين: في حالة عدم كفاية الريع:
▪︎ تطبيق شرط الواقف في الأولويات.
▪︎ إذا لم يحدد الواقف، يُوزع الريع بعد مصاريف الصيانة الضرورية على المستحقين بنسبة أنصبائهم (كما في المادة 947 من مجلة الأحكام العدلية العثمانية).
6. الإنصاف في التوزيع عند تغير الظروف: مثل زيادة عدد المستحقين أو تغير أحوالهم، مع الرجوع للشرع والنظام والجهة الرقابية عند الاجتهاد.
رابعاً: حقوق وواجبات المستحقين تجاه الناظر
1. حقوق المستحقين:
▪︎ الحصول على نصيبهم كاملاً وفي وقته حسب شروط الوقفية.
▪︎ المطالبة بحقوقهم عند تأخر الصرف أو النقص غير المبرر.
▪︎ الاطلاع على ما يخصهم من حسابات الوقف (ضمن الضوابط).
▪︎ الشكوى للجهة الرقابية (المحكمة/الهيئة) عند إهمال الناظر أو ظلمه أو سوء إدارته.
▪︎ الانتفاع بمنافع الوقف حسب نوع الوقف (سكن، علاج، تعليم..) بالصورة المقررة.
2. واجبات المستحقين:
▪︎ المحافظة على عين الوقف إذا كان الانتفاع مباشراً (كالمساكن)، وعدم الإضرار بها.
▪︎ تقديم المستندات المطلوبة لإثبات استحقاقهم عند الحاجة.
▪︎ الالتزام بشروط الانتفاع (كالسكن فقط وعدم التأجير من الباطن دون إذن).
▪︎ التعاون مع الناظر في الأمور المشروعة لخدمة الوقف.
خامساً: الضوابط القانونية (مواد أنظمة الأوقاف - أمثلة)
أدركت التشريعات الحديثة أهمية تنظيم هذه العلاقة:
• نظام الأوقاف السعودي ولوائحه:
▪︎ المادة (13) لائحة تنفيذ نظام الأوقاف: تنص على أن يقوم الناظر "بتوزيع غلة الوقف على مستحقيها وفقاً لشروط الواقف".
▪︎ المادة (14): تؤكد على تقديم الناظر حساباً سنوياً للهيئة العامة للأوقاف عن إدارة الوقف وتوزيع غلته.
▪︎ المادة (17): تحدد أسباب عزل الناظر، ومنها "الإخلال الجسيم بواجباته" أو "التقصير في توزيع غلة الوقف على مستحقيها".
• القانون المصري رقم 48 لسنة 1946 بشأن الأوقاف الأهلية (معدل):
▪︎ المادة (13): "يتولى الناظر... صرف ريع الوقف طبقاً لشروط الواقف".
▪︎ المادة (15): على الناظر "أن يقدم للمحكمة... حساباً سنوياً عن إيرادات الوقف ومصروفاته وما بقي منه".
▪︎ المادة (16): للمستحقين (أو من ينتفع بالوقف) الحق في طلب عزل الناظر لسوء تصرفه أمام المحكمة.
سادساً: تحديات وحلول في العلاقة
1. تحديات:
▪︎ تضارب المصالح: إذا كان الناظر نفسه مستفيداً، قد يفضل مصلحته.
▪︎ سوء الإدارة أو الفساد: إهمال الصيانة، التلاعب بالحسابات، تأخير التوزيع.
▪︎ الغموض في شروط الواقف: يؤدي إلى نزاعات في التوزيع.
▪︎ تغير أحوال المستحقين: فقراء يصبحون أغنياء أو العكس.
▪︎ نقص الريع: بسبب سوء الاستثمار أو الظروف الاقتصادية.
2. حلول:
▪︎ الرقابة الفعالة: من قبل المحكمة أو هيئة الأوقاف المختصة (مراجعة الحسابات، تلقي الشكاوى، التفتيش).
▪︎ الشفافية المطلقة: في الحسابات وإجراءات التوزيع.
▪︎ اختيار ناظر كفؤ أمين: ذو خلق ودين وخبرة.
▪︎ التوثيق الدقيق: لشروط الواقف وقرارات الناظر وعقود الاستثمار.
▪︎ آليات لتسوية المنازعات: لجان داخلية أو اللجوء للمحكمة المختصة.
▪︎ الاستعانة بالمستشارين: في الأمور الفنية أو الشرعية المعقدة.
الخاتمة:
العلاقة بين ناظر الوقف والمستحقين هي علاقة تكاملية قائمة على الثقة والمسؤولية أمام الله ثم أمام الواقف وأمام المجتمع. نجاح هذه العلاقة واستمراريتها رهينان بالتزام الناظر بأمانته وعدله، وحرصه على تنفيذ شروط الواقف وتحقيق مصلحة الوقف والمستحقين، وبمعرفة المستحقين لحقوقهم وواجباتهم وتعاونهم مع الناظر في حدود المشروع. كما أن وجود أنظمة واضحة ورقابة فعالة من الجهات المختصة هو الضمانة العملية لاستقرار هذه العلاقة الحيوية، وبالتالي ضمان استمرارية الأوقاف في أداء دورها التنموي والاجتماعي والخيري عبر الأجيال، تحقيقاً لمقاصد الشريعة في التكافل وإحياء روح الوقف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنويه أكاديمي
قد تبدو تواريخ النشر متقاربة، نظرًا لعملية نقل وأرشفة الأبحاث والمقالات إلى المدونة بعد تدشينها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إعداد: د. محمد عيدروس باروم
باحث أكاديمي ومدرب معتمد في القيادة، الحوكمة، والاستراتيجية
© 2025 جميع الحقوق محفوظة
يُسمح بالاقتباس لأغراض علمية وغير ربحية مع الإشارة إلى المصدر
تعليقات
إرسال تعليق