الانزياح الدلالي (Semantic Shift) كيف تتحول الإساءة إلى موسيقى فيروسي (Viral) - بقلم/ د. محمد عيدروس باروم
الانزياح الدلالي (Semantic Shift): كيف تتحول الإساءة إلى موسيقى فيروسي (Viral)؟
الملخص
يبحث هذا المقال في ظاهرة تحويل المحتوى المسيء إلى مقاطع موسيقية قابلة للانتشار الفيروسي على منصات التواصل الاجتماعي، متخذًا من حالة "Tralalero Tralala" نموذجًا للدراسة. ويهدف إلى تحليل الآليات التقنية والثقافية التي تتيح انتشار مثل هذا المحتوى، مع تسليط الضوء على التحديات التربوية التي يفرضها، واقتراح إطار توعوي قائم على تعزيز "المناعة الرقمية" (Digital Immunity) لدى الشباب كحلّ استباقي. ويقدم المقال مساهمة جديدة في ربط مفهوم الانزياح الدلالي بسياقات الإعلام الرقمي، كإطار تحليلي لفهم التحولات الثقافية في زمن الميمات والانتشار الخالي من السياق.
مقدمة
في عصر اقتصاد الانتباه (Attention Economy)، حيث تتصارع المضامين على الظهور في شاشات المستخدمين، أصبحت "القابلية للانتشار" (Virality) هي المعيار الأهم، متجاوزةً في كثير من الأحيان القيمة الأخلاقية أو المعنى الجوهري للمحتوى. ضمن هذا السياق، برزت ظاهرة تحويل الرسائل المسيئة أو ذات الطابع العدائي إلى مقاطع موسيقية جذابة وسهلة الترديد، مما يشكّل تحديًا كبيرًا للوعي النقدي لدى المتلقي، وخاصة من فئة الشباب الذين قد يستهلكون المحتوى دون تفكيك مكوناته الدلالية.
1. الانزياح الدلالي: الإطار النظري وتحليل الظاهرة
الانزياح، كمفهوم أسلوبي، يُعرف بأنه "الخروج عن المألوف والمُعتاد، والتنحّي عن السائد والمتعارَف عليه، وهو إضافة جماليّة ينقل المبدع من خلالها تجربته الشعوريّة للمتلقي ويعمل على التأثير فيه" (صفحة ظاهرة الانزياح على فيسبوك، 2023). في حالة "Tralalero Tralala"، يُستغل هذا المفهوم بشكل ملتوٍ لتحقيق انتشار واسع عبر آليات متعددة:
الشكل مقابل المضمون
تعتمد هذه الظاهرة على فصل كامل بين الشكل الجذاب (إيقاع مُرقص، كلمات بسيطة، لحن سهل) والمضمون المسيء (⚠️Porco Dio, Porco Allah) - إساءة صريحة مُقتبسة لأغراض البحث فقط). هذا الانزياح الدلالي يخدع آلية التلقي الأولى، حيث ينصبّ انتباه المستخدم على الإيقاع وليس المعنى، وهو ما يتوافق مع فكرة "المفاجأة" التي يولدها الانزياح كوظيفة رئيسية له.
التسطيح الثقافي
تقوم المنصات مثل تيك توك على اقتصاد المقاطع القصيرة، مما يدفع إلى تسطيح المحتوى وإفراغه من سياقه. ينتقل المقطع كلازمة (Meme) مسلية، منفصلاً تمامًا عن معناه الأصلي وأي نوايا وراءه، مما يصعّب عملية تتبع مصدره أو فهم أبعاده الحقيقية.
2. الآليات التقنية والخوارزمية: محركات الانتشار الخفي
حياد الخوارزمية الزائف
تتصرف الخوارزميات بناءً على معدلات المشاركة والمشاهدات والإعجابات، بغض النظر عن المحتوى الدلالي. مقطع مسيء بإيقاع جذاب قد يحصل على انتشار أوسع من مقطع توعوي، لأنه ببساطة "أكثر ترفيهاً" وأسرع انتشارًا. الخوارزميات هنا لا تتحيز لمعنى بل لـ "القابلية للانتشار" (Jenkins et al., 2018).
غرف الصدى والتطبيع
تقوم الخوارزمية بعرض المحتوى على مستخدمين متشابهين في الأذواق والسلوك، مما يخلق "غرف صدى" (Echo Chambers) حيث يتم تداول المقطع وتطبيع ترديده، مع غياب شبه تام للصوت النقدي الذي قد يعترض على مضمونه، مما يعزز قبول الرسالة المسيئة تدريجيًا.
3. التحديات التربوية والتوعوية: عوائق المواجهة
التحدي اللغوي
كثير من المستخدمين العرب قد يرددون كلمات بلغة أجنبية (كالإيطالية هنا) دون فهم معناها، مما يجعلهم ناقلين للرسالة المسيئة دون وعي منهم.
التحدي النقدي
يتطلب اكتشاف هذه الظاهرة مستوى متقدماً من "الوعي الرقمي" (Digital Literacy) والتفكير النقدي، وهو ما قد يكون غائبًا لدى الأطفال والمراهقين الذين هم الأكثر تفاعلاً مع هذه المنصات (UNESCO, 2021).
تحدي "عدم الإحراج"
قد يتحفظ الشباب عن التساؤل عن معنى كلمة ما أو الإعراب عن استيائهم خوفًا من الإحراج أو السخرية من قبل أقرانهم، فيفضلون التماشي مع التيار وعدم إبداء الرأي.
4. إطار مقترح للتوعية والمواجهة: نحو مناعة رقمية فاعلة
تعزيز "المناعة الرقمية" (Digital Immunity)
يجب أن تتحول التوعية من نهج المنع إلى نهج التمكين، عبر تنمية مهارات التفكير النقدي والتحقق من المحتوى. يشمل ذلك تعليم الشباب آليات البحث عن أصل المقطع ومعنى الكلمات الغريبة قبل المشاركة أو إعادة النشر (Buckingham, 2019).
التوعية بالمفهوم وليس بالمثال فقط
بدلاً من التركيز على منع أغنية محددة (قد تختفي وتظهر غيرها)، يجب شرح الآلية العامة للانزياح الدلالي وكيفية اكتشافه: "هناك مقاطع تستخدم الإيقاع الجذاب لتسويق أفكار مسيئة أو خطيرة، كن منتبهًا واقرأ التعليقات وابحث عن المعنى".
دور النخبة المثقفة والمؤثّرين
على المؤثرين الدينيين والتربويين والاجتماعيين تناول هذه الظاهرة عبر مقاطعهم، بشرح منهجي هادئ، يفضح الآلية دون أن يعطي شهرة أكبر للأغنية الأصلية، مع تقديم بدائل إيجابية.
التعاون مع المنصات والتشريعات الرقمية
الضغط على منصات مثل تيك توك لتحسين آليات الرقابة الذاتية الخاصة بها، ليس عبر الحذف الآلي فقط، ولكن عبر إرفاق تحذيرات واضحة على المحتوى المسيء. هذا يجب أن يقترن بدعوة واضحة لتعزيز المسؤولية الأخلاقية للمنصات ووضع تشريعات رقمية أكثر صرامة تحمي المستخدم، وخاصة القاصرين، وتُلزم هذه المنصات بتبني شفافية أكبر في عمل خوارزمياتها.
خاتمة
ظاهرة "Tralalero Tralala" ليست مجرد أغنية مسيئة عابرة، بل هي نموذج مصغّر لآلية أكثر تعقيدًا في العصر الرقمي، حيث يمكن للانزياح الدلالي - الذي يُفترض أن يكون أداة جمالية - أن يُستغل في نقل أفظع الرسائل تحت غطاء الترفيه. لذا، فإن المواجهة الحقيقية لا تكمن في حذف المقطع فحسب، بل في بناء وعي نقدي جماعي قادر على تفكيك هذه الآليات، وتحويل المستخدم من متلقٍ سلبي إلى متلقٍ ناشط وفعّال. هذه مسؤولية مشتركة تقع على عاتق المؤسسات التعليمية والأسر والنخب المثقفة والمنصات نفسها، مدعومةً بأطر تشريعية رقمية واضحة، لضمان وجود فضاء رقمي آمن ومحافظ على القيم الإنسانية الأساسية.
قائمة المراجع
- Buckingham, D. (2019). The Media Education Manifesto. Polity Press.
- Jenkins, H., Ford, S., & Green, J. (2018). Spreadable Media: Creating Value and Meaning in a Networked Culture. New York University Press.
- TikTok Inc. (2023). Community Guidelines. Retrieved from https://www.tiktok.com/community-guidelines
- UNESCO. (2021). Digital literacy for all: A global framework. United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization.
- صفحة ظاهرة الانزياح على فيسبوك. (2023، 15 مايو). ظاهرة الانزياح: تتنوّع مفاهيم الأسلوبية وآليّات اشتغالها. فيسبوك. تم الاسترداد في [تاريخ الوصول] من رابط المنشور.
تعليقات
إرسال تعليق