

إعداد: د. محمد عيدروس باروم
تواجه المؤسسات اليوم فجوة تطبيقية واسعة بين تبني أطر الحوكمة النظرية وتنفيذها الفعلي على أرض الواقع. تشير المقارنات الدولية إلى وجود فجوة واضحة في معدلات الامتثال الكامل لمعايير الحوكمة بين الاقتصادات المتقدمة والنامية، مما يستدعي تدخلاً عاجلاً من صناع القرار[citation:6].
تنجم هذه الفجوة عن عوامل ثقافية وسلوكية كـ مقاومة التغيير وتضارب المصالح، وعوامل هيكلية وتقنية تتمثل في ضعف البنية الرقمية وارتفاع تكاليف التحول، بالإضافة إلى غموض وتعارض التشريعات التنظيمية. ولتجاوز هذه التحديات، نقترح إطاراً متكاملاً يرتكز على أربعة محاور:
محور التوازن: مواءمة أنظمة الحوكمة مع حجم وطبيعة كل مؤسسة لتحقيق التوازن بين المرونة والصرامة.
محور التكامل: ربط الحوكمة بالاستراتيجية والميزانيات لضمان تمويل القرارات الاستراتيجية.
محور البناء: تطوير القدرات المؤسسية وبناء الثقافة التنظيمية الداعمة من خلال برامج تدريبية مستمرة.
محور الأتمتة: اعتماد أنظمة رقمية متكاملة تدعم الشفافية والرقابة والكفاءة التشغيلية.
توصي هذه الورقة صناع القرار بالمستويين المؤسسي والوطني بتبني نموذج "الفلاتر التحليلية السبعة" لصنع القرار، وتعزيز استقلالية المجالس الإدارية، وتوحيد التشريعات بين الجهات الرقابية، ودعم التحول الرقمي للمنشآت الصغيرة والمتوسطة. إن معالجة هذه الفجوة ليست ترفاً إدارياً، بل ضرورة استراتيجية لتحقيق الاستدامة التنظيمية وتعزيز الثقة في الاقتصاد الوطني.
لتحويل الحوكمة من نظرية إلى ممارسة فعّالة، نقترح الإطار التكاملـي التالي الذي يجمع بين أربعة مكونات رئيسية:
يتطلب التطبيق الفعال للحوكمة تحقيق توازن دقيق بين الالتزام بالمعايير والأطر المرجعية، وبين المرونة الكافية للتكيف مع طبيعة كل مؤسسة واحتياجاتها. يتم تحقيق هذا التوازن من خلال تطوير أطر حوكمة تتناسب مع حجم المؤسسة وطبيعة عملها ومرحلة نموها، وتبني نهج قائم على إدارة المخاطر بدلاً من النهج البيروقراطي الصارم، وتفعيل آليات رقابة متدرجة تركز على النتائج وليس الإجراءات فقط.
يجب أن تكون الحوكمة جزءاً لا يتجزأ من الإدارة الاستراتيجية للمؤسسة، وليس مجرد إجراءات منعزلة. يتحقق ذلك من خلال ربط أنظمة الحوكمة بالأهداف الاستراتيجية، ودمجها في عمليات التخطيط والميزانية والتقييم. وكما تؤكد الدراسات، فإن الفصل بين التخطيط والتمويل يؤدي إلى قرارات متسرعة ومخاطر مالية وتهديد للاستدامة التنظيمية. لذا، يجب أن تقدم الحوكمة إطاراً تكاملياً لتعظيم هذه العلاقة، مع التأكيد على أن الفعالية التنظيمية تتحدد بمدى نجاح القيادة في دمج البعد المالي ضمن عملية التخطيط الاستراتيجي.
يعد بناء ثقافة تنظيمية داعمة للحوكمة شرطاً أساسياً لنجاحها. ويتحقق ذلك من خلال برامج التوعية المستمرة التي توضح قيمة الحوكمة وآثارها الإيجابية على أداء المؤسسة، وغرس ثقافة تقييم القرارات عبر الفلاتر التحليلية كجزء من الحمض النووي للمؤسسة، وتعزيز مبادئ الشفافية والمساءلة في العمليات الإدارية والمالية، وتمكين المجالس الإدارية من خلال تأهيل الأعضاء وتوضيح أدوارهم ومسؤولياتهم.
يمكن لأنظمة التكنولوجيا المتقدمة أن تلعب دوراً محورياً في سد الفجوة بين النظرية والتطبيق. فهي توفر أدوات عملية لتحويل مبادئ الحوكمة إلى ممارسات قابلة للتطبيق والقياس. ومن هذه الأنظمة: أنظمة إدارة الوثائق الرقمية التي تسهل عمليات التدقيق والرقابة وتحسين الامتثال المؤسسي، وأنظمة إدارة المخاطر والامتثال التي تساعد الشركات على تحليل المخاطر واتخاذ قرارات مبنية على البيانات، ومنصات الحوكمة المتكاملة التي تدعم الشفافية، تتبع العمليات، والتحكم في الوصول، وتساهم في أتمتة سير العمل الإداري.
لتقييم فعالية الإطار المقترح، يمكن استخدام المؤشرات التالية:
نسبة القرارات الموثقة: نسبة القرارات الرئيسية التي تم توثيق تحليلها عبر الفلاتر التحليلية المتكاملة.
سرعة الاستجابة: نسبة تنفيذ توصيات لجان المراجعة والرقابة ضمن إطار زمني محدد (مثل 90 يوماً).
الشفافية الزمنية: متوسط زمن الإفصاح عن الحوادث والانتهاكات الجوهرية.
نضج الرقابة: مستوى نضج نظام الرقابة الداخلية مقاساً بمقياس معياري (من 1 إلى 5).
تطبيق نموذج الفلاتر التحليلية السبعة كإجراء منهجي إلزامي لصنع القرارات الاستراتيجية، مع التوثيق المنهجي لعملية التحليل.
تعزيز استقلالية وتركيبة مجالس الإدارة، وضمان توازنها بين الأعضاء التنفيذيين وغير التنفيذيين، مع منع ازدواجية منصبي رئاسة المجلس والمدير التنفيذي.
ربط نظام الحوافز والمكافآت بأداء شامل ومتوازن، يتجاوز المعايير المالية قصيرة الأجل ليشمل الأبعاد الاستراتيجية، والأخلاقية، وإدارة المخاطر، وذلك تحت إشراف لجان مستقلة.
توحيد وتنسيق المتطلبات واللوائح بين مختلف الجهات الرقابية لتقليل التعقيدات والتباينات التي تربك المؤسسات.
دعم وتحفيز التحول الرقمي للمنشآت الصغيرة والمتوسطة من خلال حزم تمويلية وتقنية مخصصة لتطبيق أنظمة الحوكمة الإلكترونية.
إنشاء مراكز امتياز وطنية للحوكمة تكون مسؤولة عن بناء القدرات، وإجراء الأبحاث، ونشر أفضل الممارسات والنماذج القياسية.
خلصت هذه الدراسة إلى أن الفجوة بين النظرية والتطبيق في مجال الحوكمة المؤسسية هي فجوة منظومية متعددة الأبعاد، وليست مجرد قصور في النماذج النظرية الدولية. وإن علاجها لا يكون بإصدار المزيد من اللوائح فحسب، بل يتطلب بناء نظام تشغيل حكومي متكامل يربط الاستراتيجية بالتمويل، ويحول المبادئ المجردة إلى ممارسات وإجراءات قابلة للقياس، ويغرس ثقافة تنظيمية جديدة تقوم على الشفافية والمساءلة.
إن تعزيز الإرادة القيادية، مع المواءمة التشريعية على المستوى الوطني، والاستثمار في القدرات البشرية والأنظمة الرقمية، يمثل المفاتيح الأساسية لسد هذه الفجوة. الإطار المقترح والتوصيات المرافقة له يقدمان مساراً عملياً قابلاً للتطبيق يمكن أن يساهم بشكل فعال في رفع أثر الحوكمة على الأداء المؤسسي وتحقيق الاستدامة المنشودة.
تعليقات
إرسال تعليق