الحوكمة الوقفية بين فقه الواجب وإدارة الغياب: دراسة في أزمة التواصل ومسؤولية المساءلة بقلم: د. محمد عيدروس باروم


الحوكمة الوقفية – رمز الميزان والكتاب كدلالة على الشفافية والمساءلة


مقدمة

حين يغيب الناظر أو وكيله عن التواصل مع المستحقين، فذلك لا يُعدّ تقصيرًا إداريًا عابرًا؛ بل مؤشرًا خطيرًا على خلل عميق في حوكمة الوقف، وانحراف صريح عن مبادئ الشفافية والإفصاح والمساءلة التي تقوم عليها ثقة الموقوف عليهم وضمان استمرارية الأوقاف.

فالأوقاف ليست تركة شخصية يُحتكر قرارها، بل عهد شرعي ومؤسسة اجتماعية مستقلة، تستوجب الحضور الفاعل والمساءلة المستمرة. إنّ صمت القائمين على الوقف وتواريهم عن أداء واجب التواصل الأساسي لا يقلل من مصداقيتهم فحسب، بل يحوّل الأمانة إلى غياب، والحق إلى سؤال ملحّ يطرحه المجتمع والجهات الرقابية: أين الأمانة؟ وأين من وُكِّل بها؟

1. إدارة الغياب كظاهرة مؤسسية

ما يجري ليس مجرد غياب عرضي، بل هو ما يمكن تسميته بـ "إدارة الغياب"؛ وهي نمط إداري dysfunctional (معطوب) يتسم بالتعتيم، وغياب التقارير، وترك المستفيدين في دائرة المجهول. هذه الثقافة تمثل النقيض المباشر لـ "إدارة الحضور" التي تُبنى على الانخراط الفاعل، والإفصاح المنتظم، وتقديم تقارير دورية تُطمئن المستحقين وتُعزز ثقتهم بالوقف.

2. أدوات الحوكمة الرشيدة المفقودة

الأمانة الشرعية والقانونية تفرض وجود أنظمة واضحة وفعّالة، من أبرزها:

· لوائح داخلية مُلزمة تُحَدِّدُ بوضوح واجبات الناظر في التواصل، وتُوجب عليه إصدار تقارير مالية وإدارية دورية (نصف سنوية على الأقل).

· قنوات اتصال مؤسسية مثل البريد الإلكتروني الرسمي، أو منصة إلكترونية للمستحقين، أو خط ساخن مخصص لتلقي استفساراتهم.

· تقارير شاملة لا تقتصر على الجانب المالي، بل تتناول الأنشطة التنموية، والمشاريع الجارية، والتحديات، وخطط التحسين.

إن غياب هذه الأدوات يحوّل الوقف من مؤسسة خيرية مستدامة إلى كيان غامض، يفقد وظيفته الاجتماعية والشرعية.


3. دور الجهات الرقابية

هنا تبرز أهمية الدور الرقابي للهيئات المشرفة على الأوقاف، وفي مقدمتها الهيئة العامة للأوقاف في المملكة العربية السعودية، إذ تقع عليها مسؤولية ضمان الالتزام بمعايير الحوكمة الرشيدة، ووضع آليات فاعلة لتلقي شكاوى المستفيدين، ومحاسبة النظار المقصرين وفق الضوابط الشرعية والقانونية.

الخلاصة: من الأزمة إلى الإصلاح

إن التعامل مع التواصل على أنه ترف إداري أو شأن ثانوي هو ممارسة تُفقد الوقف مقصده، وتُعرّض القائمين عليه للمساءلة الأخلاقية والنظامية. معالجة أزمة التواصل ليست مجرد إصلاح إجرائي، بل هي إعادة هيكلة للعقلية المؤسسية للوقف:

· الناظر يُسأل عن أدائه.

· المستحق يُطمئن على حقه.

· الجهة الرقابية تضمن الاستمرارية والشفافية.

بهذا فقط يتحول الوقف من كيان مغلق إلى منصة مفتوحة للخير والعطاء، تُحقق مقاصد الشريعة في حفظ المال، وتعمير المجتمع، واستدامة العمل الخيري. وحينها يتحقق الوعد الحقيقي للوقف: أن يكون صدقة جارية وعهدًا مستدامًا، تُحفظ فيه الأمانة، ويُؤدَّى فيه الحق، ويطمئن إليه الواقف والمستفيد على حد سواء.

خاتمة رؤيوية

وعليه، فإن هذه الرؤية المتكاملة التي تجمع بين المسؤولية الفردية (فقه الواجب)، والنظام المؤسسي (أدوات الحوكمة)، والرقابة الخارجية الفاعلة هي السبيل لإخراج الوقف من دائرة "إدارة الغياب" إلى فضاء "إدارة الحضور". حضورٌ يعيد للوقف رسالته، ويحقق مقاصده، ويجسّد معنى الأمانة في أبهى صورها: أمانة تجاه الله، وتجاه شرع الواقف، وتجاه حقوق المستفيدين، وتجاه المجتمع الذي يقوم على أساس من الثقة والعطاء.


© 2025 – د. محمد عيدروس باروم

📧  | 🌐 المدونة | 🔗 Linktree


تعليقات

  1. ‏إنّ حق المستحقين في التواصل والصرف ليس مِنّة، بل واجب شرعي وقانوني على الناظر، وأي تجاهل له يُعتبر إخلالًا بالأمانة. ولهذا فإن الحلول العملية الممكنة تتمثل في:
    1. التوثيق المستمر لكل حالة انقطاع أو تأخر في التواصل أو الصرف.
    2. رفع شكوى عبر القنوات الرسمية إلى الهيئة العامة للأوقاف بطلب التدخل العاجل.
    3. اللجوء إلى القضاء المختص عند استمرار الغياب، استنادًا إلى شرط الواقف وحماية الحقوق.

    فالوقف أمانة كبرى، ومن يتولى النظارة ملزم شرعًا ونظامًا بالشفافية والإفصاح، فإن قصّر، وجب أن تتدخل الجهات الرقابية لإعادة التوازن وصيانة الحقوق.

    نسأل الله أن يُعيد للوقف رسالته، ويُؤدَّى فيه الحق كما أراده الواقفون.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عقدة المنصب الجديد: الآليات السيكوسوسيولوجية لتقزيم الماضي وبناء الشرعية الزائفة في القيادة - إعداد: د. محمد عيدروس باروم

استراتيجيات عملية لتعزيز الإنتاجية والرضا الوظيفي - اعداد: د. محمد عيدروس باروم

مؤشرات المخاطر القيادية ودورها في استدامة المنظمات اعداد: د. محمد عيدروس باروم