ثقافة الامتثال بين التوقيع الشكلي والالتزام الجوهري
تحليل نقدي لواقع الامتثال المؤسسي وإطار مقترح للتحول من المظهر إلى الجوهر

تهدف هذه الورقة إلى تحليل طبيعة "ثقافة الامتثال" السائدة في العديد من المنظمات العربية والدولية، والسؤال عما إذا كانت تمثل التزاماً حقيقياً بالقيم والمعايير والأطر القانونية والأخلاقية، أم أنها مجرد إجراء شكلي يقتصر على التوقيعات والوثائق. تتبنى الورقة منهجية تحليلية نقدية من خلال استعراض الأدبيات ذات الصلة، وتحليل الأسباب الكامنة وراء الشكلية في الامتثال، وتقديم إطار مقترح لتحويل ثقافة الامتثال من مجرد توقيع إلى التزام جوهري. وتخلص الورقة إلى أن تحول ثقافة الامتثال إلى ممارسة حقيقية يتطلب قيادة أخلاقية، وتضمين القيم في صميم العمليات، وتمكين الموظفين، وبناء أنظمة مراقبة وتقييم فاعلة.
1. المقدمة
شهدت العقود الأخيرة تركيزاً متزايداً على مفاهيم الامتثال والحوكمة في القطاعين العام والخاص، وخصوصاً في أعقاب الأزمات المالية والفضائح المؤسسية. وقد أدى هذا التركيز إلى ظهور ما يعرف بـ «ثقافة الامتثال»، والتي يُفترض أنها تشكل نسيجاً من القيم والمعتقدات والسلوكيات التي تدفع الأفراد والمنظمات للعمل وفقاً للقوانين واللوائح والمعايير الأخلاقية. بيد أن الممارسة العملية تكشف عن فجوة واسعة بين المظهر والجوهر في كثير من الحالات، حيث تتحول هذه الثقافة إلى طقوس إدارية شكلية تهدف إلى «توثيق» البراءة بدلاً من «بنائها».
2. الإشكالية وأهداف البحث
وهذا يطرح التساؤلات الفرعية التالية:
- ما هي مظاهر تحول ثقافة الامتثال إلى إجراء شكلي؟
- ما الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة؟
- كيف يمكن تمييز ثقافة الامتثال الحقيقية عن الزائفة منها؟
- ما هو الإطار العملي لبناء ثقافة امتثال جوهرية وفاعلة؟
3. المنهجية
تعتمد هذه الورقة على المنهج التحليلي النقدي من خلال تحليل الأدبيات العلمية في مجال الحوكمة والامتثال المؤسسي، ودراسة التجارب العملية في تطبيق أنظمة الامتثال، وتقديم إطار تحليلي مقارن بين نماذج الامتثال الشكلي والجوهري.
4. مظاهر الشكلية في ثقافة الامتثال
- فصل التوثيق عن الممارسة: تكديس الملفات والمستندات الموقعة (كمدونات السلوك، وإقرارات الالتزام) دون وجود آليات حقيقية لتفعيلها أو متابعة الالتزام بها على أرض الواقع.
- الامتثال الدفاعي: الهدف الأساسي هو حماية المنظمة من المساءلة القانونية والإعلامية، وليس تعزيز السلوك الأخلاقي أو تحسين الجودة.
- تفتيت المسؤولية: حصر مسؤولية الامتثال في إدارة أو قسم معين (كإدارة الامتثال أو الشؤون القانونية)، بدلاً من اعتبارها مسؤولية جماعية تشمل كل فرد في المنظمة من القيادة إلى الموظف الميداني.
- غياب المساءلة الفعلية: عدم وجود عواقب حقيقية للمخالفين، أو وجود معايير انتقائية في تطبيق العقوبات، مما يفقد نظام الامتثال مصداقيته.
- التدريب الشكلي: تنظيم برامج تدريبية للامتثال تكون هدفها «تسجيل الحضور» وليس قياس أثرها في تغيير السلوك أو تعزيز المعرفة.
5. الأسباب الكامنة وراء الشكلية
- الضغوط الخارجية: كرد فعل سريع على تشريعات جديدة أو فضائح، مما يدفع المنظمات إلى تبني حلول سريعة وشكلية لتلميع الصورة العامة.
- ضعف القيادة الأخلاقية: عندما لا تلتزم الإدارة العليا بمبادئ الامتثال في سلوكها اليومي، فإنها ترسل رسالة واضحة بأن هذه السياسات مجرد حبر على ورق.
- الثقافة التنظيمية السلبية: انتشار ثقافة «اللا مساءلة» أو «التهرب من النظام» أو مكافأة النتائج بغض النظر عن الوسيلة.
- تعقيد الأنظمة واللوائح: يؤدي التعقيد المفرط في إجراءات الامتثال إلى لجوء الموظفين إلى طرق مختصرة أو إلى التظاهر بالالتزام تفادياً للإجراءات الطويلة.
- غياب الحوافز الإيجابية: اقتصار نظام الامتثال على العقوبات دون مكافأة السلوك الامتثالي المتميز، مما يجعله مرتبطاً بالخوف بدلاً من الاقتناع.
- الاعتماد المفرط على الاستشاريين الخارجيين: حيث تُستعان بجهات خارجية لتولّي مهام الامتثال دون بناء قدرات داخلية.
- غياب التكامل بين الأنظمة التقنية والحوكمة: حيث تُنفّذ الأنظمة المعلوماتية بمعزل عن القيم المؤسسية.
6. تمييز الثقافة الحقيقية عن الشكلية
يمكن التمييز بين ثقافة الامتثال الحقيقية والشكلية من خلال تحليل عدة أبعاد أساسية. ففي الثقافة الحقيقية، تكون القيادة قدوة ونموذجاً يُحتذى به في الالتزام، حيث يترجم القادة القيم إلى أفعال يومية. بينما في الثقافة الشكلية، تعلن القيادة عن الالتزام علناً لكنها تتجاوزه في الممارسة العملية.
من حيث الهدف، تسعى الثقافة الحقيقية إلى حماية سمعة المنظمة وبناء ثقة مستدامة مع أصحاب المصلحة، في حين يقتصر هدف الثقافة الشكلية على حماية المنظمة من الغرامات والمخاطر القانونية المباشرة. أما فيما يتعلق بالمسؤولية، فإن الثقافة الحقيقية تعتبر الامتثال مسؤولية جماعية يشعر بها كل فرد في المنظمة، في حين تحصر الثقافة الشكلية هذه المسؤولية في إدارة معينة، مما يجعلها مسألة مكتبية بحتة.
وفي بُعد التواصل، تتبنى الثقافة الحقيقية حواراً مفتوحاً ومستمراً حول المعضلات الأخلاقية، بينما تتركز الثقافة الشكلية على توجيه أوامر وتعليمات من أعلى إلى أسفل دون فسح المجال للنقاش. على صعيد التدريب، يتميز التدريب في نطاق الثقافة الحقيقية بأنه تفاعلي ويركز على دراسة الحالات وبناء المهارات السلوكية، بينما يتحول في إطار الثقافة الشكلية إلى تدريب نظري تسجيلي الهدف الأساسي منه هو إثبات الحضور.
أخيراً، في بُعد المساءلة، تؤسس الثقافة الحقيقية نظاماً عادلاً وشفافاً للمساءلة يطبق على الجميع دون استثناء، في حين تتسم المساءلة في الثقافة الشكلية بأنها انتقائية أو غائبة في كثير من الأحيان، مما يقوض أي احتمال لوجود التزام حقيقي.
7. الإطار المقترح لبناء ثقافة امتثال جوهرية
- الالتزام من أعلى الهرم: يجب أن يبدأ الالتزام الحقيقي من مجلس الإدارة والمدير التنفيذي، وأن يكون سلوكهم نموذجاً حياً للقيم التي تدعي المنظمة الالتزام بها.
- دمج الامتثال في العمليات الأساسية: يجب أن يكون الامتثال جزءاً من كل عملية، من التخطيط الاستراتيجي إلى التقييم الأدائي، وليس نشاطاً منعزلاً.
- تمكين الموظفين وتشجيع الإبلاغ: إنشاء قنوات آمنة وسرية للإبلاغ عن المخالفات (نظام الإبلاغ عن المخالفات) وحماية المبلغين من أي انتقام.
- التقييم المستمر والقياس: استخدام مؤشرات أداء رئيسية (KPIs) لقياس فاعلية ثقافة الامتثال، مثل عدد الاستفسارات الأخلاقية، نسبة الإبلاغ عن المخالفات، نتائج استبيانات المناخ الأخلاقي.
- التحول من العقاب إلى التعلم: معاقبة المخالفين بشكل عادل، ولكن في نفس الوقت تحويل كل مخالفة إلى فرصة للتعلم المؤسسي وتحسين النظام.
- التواصل الفعّال: ترجمة السياسات والمعايير إلى لغة بسيطة ومباشرة، ونشر قصص النجاح التي تظهر فوائد الالتزام.
8. التطبيق العملي في بيئة العمل السعودية
في السياق السعودي، يمكن تفعيل ثقافة الامتثال من خلال مواءمة أنظمة الامتثال مع رؤية المملكة 2030، وتبني نموذج الهيئة العامة للرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة) في تعزيز القيم المؤسسية، وربط تقييم القيادات التنفيذية بمؤشرات النزاهة والالتزام. كما يمكن الاستفادة من برامج التحول الرقمي في بناء أنظمة امتثال ذكية تتكامل مع الأنظمة التقنية مع الحفاظ على الجوهر القيمي.
9. الخاتمة
تشير التحليلات الواردة في هذه الورقة إلى أن ثقافة الامتثال تقع على طرفي نقيض: يمكن أن تكون ركيزة أساسية لبناء منظمات قوية، أخلاقية، ومستدامة، أو يمكن أن تكون قشرة خارجية تهدف إلى التجميل وإرضاء الأطراف الخارجية. الفارق بينهما يكمن في «النية» و«الجوهر». إن تحويل ثقافة الامتثال من مجرد توقيع إلى التزام حقيقي هو استثمار طويل الأجل في رأس المال غير الملموس للمنظمة (سمعتها، مصداقيتها، ثقة عملائها). وهو ليس خياراً ترفياً في عالم يزداد ترابطاً وتشدداً في المساءلة، بل هو ضرورة استراتيجية للبقاء والمنافسة.
10. قائمة المراجع (APA)
- OECD. (2023). Ethics, Integrity, and Compliance in the Public Sector. OECD Publishing.
- Transparency International. (2022). Building Integrity Systems in Organizations. TI Press.
- Parker, C. (2002). The Open Corporation: Effective Self-regulation and Democracy. Cambridge University Press.
- Ethics & Compliance Initiative (ECI). (2021). Global Business Ethics Survey. ECI.
- عبّاد، أحمد. (2019). الحوكمة والمساءلة في المنظمات العامة. دار الجامعة الجديدة.
- شيخ، فاطمة. (2020). «أثر القيادة الأخلاقية في تعزيز ثقافة الامتثال». مجلة الدراسات الإدارية، 15(3)، 45–67.
© 2025 جميع الحقوق محفوظة
د. محمد عيدروس باروم
يُسمح بالاقتباس لأغراض علمية وغير ربحية مع الإشارة إلى المصدر
تعليقات
إرسال تعليق