

تسعى هذه الورقة إلى تحليل المستويات الثلاثة المكونة لبنية الحوكمة المؤسسية — المفهوم، النموذج، والإطار — بوصفها حلقات مترابطة بين الفلسفة والتنفيذ. وقد تم توسيع التحليل بإضافة بعدين جديدين: منهجيات تقييم الأطر التنفيذية مثل "مصفوفة التقدم" (Progression Matrix) الصادرة عن مؤسسة التمويل الدولية (IFC)، والتوجهات الحديثة مثل ثقافة الحوكمة (Governance Culture) وحوكمة الاستدامة (ESG Governance)، بما يعكس التطور العالمي في المفهوم والممارسة. تؤكد الورقة أن الحوكمة لم تعد مجرد نظام رقابي، بل ثقافة استراتيجية تمكّن المؤسسات من تحقيق الاستدامة والمساءلة الشفافة.
تُعد الحوكمة المؤسسية أحد الأعمدة المركزية للقيادة الحديثة والتنمية المستدامة، إذ تطورت من مفهوم قانوني إلى منظومة قيمية وإدارية تعكس توازن السلطة والمساءلة. وبينما يتفق الباحثون على أهمية الحوكمة، فإن الغموض المفاهيمي بين مستوياتها الثلاثة (المفهوم، النموذج، والإطار) ما يزال يسبب إرباكًا في التنظير والتطبيق. تهدف هذه الورقة إلى تقديم قراءة تحليلية تُبرز هذا التمايز وتربطه بأحدث الاتجاهات في الفكر المؤسسي العالمي.
تُطرح الإشكالية في أن كثيرًا من المؤسسات تتعامل مع الحوكمة على أنها إجراءات تنظيمية دون استيعاب مستوياتها الفلسفية والنماذجية والتنفيذية.
كيف يمكن التمييز بين المفهوم والنموذج والإطار في الحوكمة المؤسسية، مع ربطها بأدوات القياس الحديثة وثقافة الاستدامة المؤسسية؟
اعتمدت الورقة المنهج التحليلي المقارن، من خلال تحليل الأدبيات الكلاسيكية والمعاصرة (Tricker, 2022; Solomon, 2020; IFC, 2022; OECD, 2023) ومقارنة الأطر المرجعية الدولية بواقع التطبيق المؤسسي في البيئات النامية.
الحوكمة المؤسسية: منظومة مبادئ وسياسات وهياكل تضمن التوجيه والرقابة والمساءلة.
نموذج الحوكمة: البناء المؤسسي لصنع القرار والعلاقات بين الملاك/الجمعية والمجلس والتنفيذيين واللجان.
إطار تنظيم الحوكمة: الوثائق والإجراءات التشغيلية (سياسات، مواثيق، تفويضات، RACI) التي تُشغِّل النموذج.
الفرق بينها: الحوكمة مبادئ، النموذج بنية، الإطار أدوات تشغيل.
المفهوم هو البعد الفلسفي الذي يجيب عن سؤال: لماذا نحتاج إلى الحوكمة؟ ويرتكز على المبادئ الكبرى: الشفافية، المساءلة، العدالة، والاستقلالية. يُعبّر المفهوم عن العقل القيمي للحوكمة، ويستند إلى فرضية أن من يملك لا يُدير، ومن يُدير يجب أن يُحاسب.
ويؤكد Tricker (2022, p. 47) أن "التمييز بين الملكية والإدارة هو أصل فكرة الحوكمة، وأنها وُجدت لضمان المحاسبة قبل السلطة".
النموذج هو الترجمة النظرية للمفهوم إلى تصميم للعلاقات المؤسسية. يجيب عن سؤال: كيف تُدار العلاقة بين الأطراف المختلفة؟ وتتنوع النماذج بين:
يرى Solomon (2020, p. 92) أن النماذج الحديثة تميل نحو الدمج بين المصلحة الاقتصادية والاجتماعية، بما يتماشى مع مفهوم "المؤسسة المسؤولة".
كما مهّد تطوّر نموذج أصحاب المصلحة الطريق لدمج أبعاد الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG) في السياسات الحديثة، حيث أصبح مجلس الإدارة مطالبًا بإدارة العلاقة بين الأطراف وفق معايير لا تقتصر على الربحية، بل تمتد إلى الأثر البيئي والاجتماعي للمؤسسة (OECD, 2023, p. 14). هذا الدمج يمثل نقلة من الحوكمة التقليدية إلى الحوكمة الشاملة التي تعترف بمسؤولية المؤسسة تجاه المجتمع والبيئة بوصفها جزءًا من رأس مالها الرمزي.
الإطار هو المستوى العملي الذي يُترجم المفهوم والنموذج إلى نظام تطبيقي متكامل. يجيب عن سؤال: ما الذي يُفعل؟ ومن المسؤول؟ وكيف يُقاس الأداء؟
يتضمن الإطار:
من أبرز الأطر الدولية:
يسهم تضمين أدوات مثل "مصفوفة التقدم" (Progression Matrix) الصادرة عن مؤسسة التمويل الدولية (IFC, 2022, p. 36) في نقل الحوكمة من المستوى النظري إلى المستوى التطبيقي، إذ تُحوِّل الأطر التنظيمية إلى منظومات قياس مؤسسية قابلة للتطوير والتحسين المستمر.
كما تُظهر تحليلات IFC أن فعالية أدوات التقييم تعتمد بدرجة كبيرة على نضج ثقافة الحوكمة داخل المؤسسة؛ فالممارسات الإجرائية لا تُحدث أثرًا مستدامًا ما لم تُدعَم بثقافة تنظيمية تشجّع على الشفافية والمساءلة. ومن ثمّ، تُعد ثقافة الحوكمة متغيرًا وسيطًا يؤثر مباشرة في نجاح تطبيق الأطر التقييمية وتحقيق التحسين المستمر (IFC, 2022, p. 42).
انتقال جهة من المستوى 1 إلى 2 عبر ضبط تضارب المصالح وتفعيل لجنة المراجعة.
لم تعد الحوكمة مجرد وثائق أو سياسات، بل ثقافة تنظيمية تُغرس في السلوك المؤسسي. يؤكد Tricker (2022, p. 49) أن "الحوكمة تفشل حين تكون قواعد دون قيم، وتنجح حين تتحول إلى ثقافة تعيشها المؤسسة يوميًا". إن نشر ثقافة الحوكمة يخلق بيئة داخلية تعزز السلوك الأخلاقي والمسؤولية المشتركة.
تطورت الأطر الحديثة لتشمل إدارة المخاطر البيئية والاجتماعية والمؤسسية، بما في ذلك:
تؤكد تقارير IFC (2023, p. 48) وOECD (2023, pp. 13–15) أن نجاح الحوكمة الحديثة يقاس بمدى قدرتها على تحقيق التوازن بين القيمة الاقتصادية والأثر الاجتماعي والبيئي.
تمثل الحوكمة المؤسسية منظومة قيمية وثقافية واستراتيجية تتدرج من المفهوم إلى النموذج إلى الإطار، لتصوغ في النهاية هوية المؤسسة ومسؤوليتها تجاه المجتمع. وحين تُبنى الأطر على ثقافة الحوكمة والاستدامة، تصبح المؤسسات أكثر وعيًا، وقراراتها أكثر اتزانًا، وتأثيرها أعمق وأطول مدى. إن إدماج البعد الثقافي والبيئي والاجتماعي يعيد تعريف الحوكمة كممارسة أخلاقية واقتصادية متكاملة توازن بين المساءلة والإنماء.
جميع الحقوق محفوظة © 2023
د. محمد عيدروس باروم
يسمح بالنشر مع الإشارة إلى المصدر
تعليقات
إرسال تعليق