مبدأ الرضا في العقود دراسة فقهية مقارنة

ملخص تنفيذي
تتناول هذه الورقة العلمية مبدأ الرضا في العقود من منظور دراسة فقهية مقارنة، حيث يعد الركيزة الأساسية التي تقوم عليها العقود في الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية. يدرس هذا البحث الأبعاد التشريعية لمبدأ الرضا من خلال تحليل مقارن بين المذاهب الفقهية الإسلامية المختلفة والأنظمة القانونية المدنية المعاصرة. كما يتناول التطبيقات المعاصرة لمبدأ الرضا في العقود الحديثة والمستجدة، ويقدم تحليلاً شاملاً لأهم القضايا الإشكالية المرتبطة بتطبيقه. تخلص الورقة إلى مجموعة من التوصيات العلمية والعملية التي تسهم في تطوير التنظيم القانوني للرضا في العقود بما يتناسب مع مستجدات العصر مع الحفاظ على الأصول الشرعية.
1 المقدمة
يعد مبدأ الرضا من الأركان الجوهرية لانعقاد العقود في الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية، فهو الأساس الذي تقوم عليه العلاقات التعاقدية بين الأفراد والجماعات. ويحظى هذا المبدأ بأهمية بالغة في الدراسات الفقهية والقانونية المعاصرة، نظراً لارتباطه المباشر بمشروعية العقود وعدالة تبادل المنافع بين المتعاقدين. وتكمن أهمية هذه الدراسة في تناولها لمبدأ الرضا من زاوية مقارنة تجمع بين استقراء الأحكام الفقهية في المذاهب الإسلامية المختلفة والتحليل القانوني في التشريعات الوضعية المعاصرة.
تهدف هذه الورقة العلمية إلى تحليل الأسس الشرعية لمبدأ الرضا في العقود واستنباط الضوابط الحاكمة له، مع مقارنة المناهج الفقهية المختلفة في تناول هذا المبدأ وبيان أوجه الاتفاق والاختلاف بينها. كما تسعى إلى معالجة الإشكاليات المعاصرة المرتبطة بتطبيق مبدأ الرضا في العقود الحديثة، وخاصة في مجال العقود الإلكترونية والمصرفية، وتقديم رؤية تأصيلية تطبيقية تسهم في تطوير التنظيم القانوني للرضا.
تعتمد المنهجية المتبعة في هذه الدراسة على التحليل المقارن الذي يجمع بين الاستنباط الفقهي من مصادر الشريعة الإسلامية والتحليل القانوني من التشريعات الوضعية، مع الاستقراء التطبيقي للنماذج العقدية المعاصرة وبيان موقف الفقه والقانون منها. كما تستخدم منهج التأصيل الشرعي للمفاهيم والمصطلحات القانونية المرتبطة بمبدأ الرضا.
2 الإطار المفاهيمي لمبدأ الرضا في العقود
2.1 مفهوم الرضا في اللغة والاصطلاح
الرضا في اللغة العربية يدل على القبول والقناعة والاطمئنان، يقال: «رضي بالأمر رضاً ورضواناً: قبله واطمأن إليه». أما في الاصطلاح الفقهي فيعرف بأنه «قبول العاقد لما التزم به عن طيب نفس من غير إكراه ولا إجبار». ويذهب أكثر الفقهاء إلى أن الرضا هو إرادة العاقد الباطنة التي من خلالها ينعقد العقد وتترتب آثاره.
وفي الفقه الإسلامي بشكل عام، يعتبر الرضا من الأركان الأساسية لصحة معظم العقود، وقد استدل الفقهاء على ذلك بعدة أدلة من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما البيع عن تراض» (رواه ابن ماجة).
2.2 أركان الرضا وشروطه
يشترط لتحقق الرضا الصحيح عدة شروط أساسية، أهمها:
- الأهلية: بأن يكون العاقد بالغاً عاقلاً رشيداً
- الاختيار: انتفاء صور الإكراه والإجبار
- الخلو من العيوب: كالغلط والتدليس والاستغلال
ويتميز الفقه الإسلامي بـالمرونة في إثبات الرضا، حيث يعتبر جميع الوسائل الدالة على القصد والإرادة، سواء كانت قولية أو فعلية أو كتابية، مما يتسق مع مقاصد الشريعة في تيسير المعاملات وتنظيمها.
2.3 مظاهر التعبير عن الرضا في الفقه الإسلامي
يتميز الفقه الإسلامي بتنوع وسائل التعبير عن الرضا، حيث يمكن أن يكون التعبير قولياً كما في صيغتي «بعت» و«اشتريت»، أو فعلياً من خلال تسلم السلعة أو دفع الثمن، أو كتابياً عبر العقود الخطية والمراسلات، أو حالياً عبر القرائن كالسكوت في مواضع الإذن. هذا التنوع يعكس مرونة الفقه الإسلامي في التعامل مع مختلف صور التعاقد.
3 دراسة مقارنة لمبدأ الرضا في المذاهب الفقهية والأنظمة القانونية
3.1 الرضا في المذاهب الفقهية الإسلامية
اتفق فقهاء المذاهب الإسلامية على اعتبار الرضا ركناً أساسياً في العقود، ولكنهم اختلفوا في طرق إثباته ومظاهره:
- المذهب الحنفي: يميز بين الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة، ويعتد بالإرادة الظاهرة في إبرام العقود وإثباتها، مع مراعاة النية في العبادات.
- المذهب المالكي: يهتم بظاهر العقد ويعتبره الأصل، مع اعتبار القرائن التي قد تكشف عن حقيقة الإرادة الباطنة.
- المذهب الشافعي: يجعل الإيجاب والقبول هما الصورة الظاهرة للرضا، ويشترط توافق الإيجاب والقبول في العقد.
- المذهب الحنبلي: يعتد بكل ما يدل على الرضا من قول أو فعل أو كتابة، ويوسع من نطاق التعبير عن الإرادة.
3.2 الرضا في القوانين المدنية المقارنة
أخذت القوانين المدنية المعاصرة بمبدأ الرضا في العقود، وإن اختلفت في التفاصيل والتطبيقات:
- القانون المدني المصري: ينص في المادة (89) على أن «التراضي يصبح عقداً متى توافرت فيه الشروط التي يقررها القانون».
- القانون المدني الفرنسي: يعتبر الرضا ركناً أساسياً في العقد، ويبطل العقد إذا شاب الرضا عيب من عيوب الإرادة.
- القانون الإنجليزي: يعترف بمبدأ «النية الملزمة» كأساس لانعقاد العقد، ويشترط توافق الإرادتين (الإيجاب والقبول).
- نظام المعاملات المدنية السعودي: ينص في المادة (54) على أن «العقد شريعة المتعاقدين، ولا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق المتعاقدين، أو للأسباب التي يقررها النظام».
- نظام المعاملات المدنية السعودي (الجديد): تنص المادة (4) على أن «لا ينعقد العقد إلا بتوافق إرادتين أو أكثر...»، مما يمثل تأصيلاً نظامياً واضحاً لمبدأ الرضا.
3.3 نظرية الإرادة في الفقه الغربي ومقارنتها مع مبدأ التراضي في الشريعة
تتبنى النظريات القانونية الغربية نظرية الإرادة (Will Theory) التي تركز على الإرادة الفردية كأساس للالتزام التعاقدي، بينما يتميز الفقه الإسلامي بمراعاة الجوانب الأخلاقية والروحية إلى جانب الإرادة الفردية. كما يربط الفقه الإسلامي الرضا بالالتزام بالأحكام الشرعية والضوابط الأخلاقية، مما يجعله أكثر شمولاً من النظرة القانونية الوضعية المحضة.
3.4 أوجه الشبه والاختلاف بين المنظورين الإسلامي والمدني
يمكن إبراز أوجه المقارنة بين المنظور الإسلامي والمدني في النقاط التالية:
- أوجه التشابه: اعتبار الرضا أساساً لانعقاد العقد، واعتبار العيوب التي تشوب الإرادة مبطلة للعقد.
- أوجه الاختلاف: يتميز الفقه الإسلامي بـالربط بين الرضا والالتزام بالأحكام الشرعية، بينما ينفصل الجانب الأخلاقي عن الجانب القانوني في بعض التشريعات الوضعية.
4 إشكاليات معاصرة في تطبيق مبدأ الرضا
4.1 الرضا في العقود الإلكترونية
أفرزت التطورات التقنية الحديثة إشكاليات عديدة في تطبيق مبدأ الرضا، لعل أبرزها:
- إثبات الرضا في التعاقد الإلكتروني: حيث يتم عبر وسائط رقمية لا تتضمن توقيعاً تقليدياً.
- الرضا في عقود الاشتراك عبر الإنترنت: والتي غالباً ما تكون عقود إذعان لا يتوفر فيها التفاوض بين الطرفين.
- التوقيع الإلكتروني ومدى اعتباره دليلاً على الرضا في الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية.
- تنظيم الإيجاب الإلكتروني: حيث يلزم بعض التشريعات العارض (التاجر) بالبقاء ملتزماً بعرضه طالما كان من الممكن الوصول إليه إلكترونياً.
ويمكن القول إن الفقه الإسلامي يتميز بالمرونة الكافية لمعالجة هذه الإشكاليات، من خلال اعتماد مبدأ العرف والقواعد الكلية مثل: «العادة محكمة» و«المشقة تجلب التيسير».
4.2 السكوت كدليل على الرضا
يعد موقف السكوت من الإشكاليات الدقيقة في موضوع الرضا، حيث اختلف الفقهاء في اعتباره دليلاً على الرضا:
- الحنفية: لا يعتبرون السكوت إيجاباً أو قبولاً إلا في معرض الحاجة.
- المالكية: يعتبرون السكوت دليلاً على الرضا في وجود القرائن الدالة على القبول.
- الشافعية: لا ينعقد العقد بالسكوت غالباً إلا في الصور الاستثنائية.
- الحنابلة: يعتبرون السكوت دليلاً على الرضا مع توفر نية التعاقد.
وقد أخذت مجلة الأحكام العدلية بالرأي الثاني في المادة (36) حيث نصت على أن «السكوت في معرض الحاجة بيان كالبيان باللسان».
4.3 عيوب الرضا في المعاملات المالية المعاصرة
تتنوع عيوب الرضا في المعاملات المعاصرة، ومن أبرزها:
- الغلط: كالغلط في ذات العقد أو في صفاته الجوهرية.
- التدليس: وهو إيحاد صورة كاذبة عن حقيقة الشيء.
- الإكراه: وهو حمل الشخص على التعاقد بتهديد غير مشروع.
- الاستغلال: ويتمثل في انعدام المساواة بين التزامات المتعاقدين.
وقد تناول الفقه الإسلامي هذه العيوب بالتفصيل، ووضع ضوابط دقيقة للتعامل معها، تميز بها عن التنظيم القانوني الوضعي.
5 الخاتمة والتوصيات
5.1 النتائج الرئيسية
توصلت الدراسة إلى عدة نتائج مهمة، أهمها:
- يتميز الفقه الإسلامي بالسبق في تقرير مبدأ الرضا كأساس لانعقاد العقود، مع مراعاة الجوانب الأخلاقية والروحية إلى جانب الجوانب الشكلية.
- تتفق المذاهب الفقهية على اعتبار الرضا ركناً أساسياً في العقود، وإن اختلفت في طرق إثباته وتطبيقه.
- تظهر المرونة الفقهية في التعامل مع المستجدات العصرية، خاصة في مجال العقود الإلكترونية والمعاملات المصرفية.
- تحتاج الأنظمة القانونية في العالم الإسلامي إلى مزيد من الاستنباط من الفقه الإسلامي في تنظيم مبدأ الرضا.
- يمثل نظام المعاملات المدنية السعودي الجديد خطوة مهمة في تأصيل مبدأ الرضا وتنظيمه بشكل معاصر.
5.2 التوصيات
في ضوء النتائج السابقة، تقدم الدراسة مجموعة من التوصيات، منها:
- دعوة المؤسسات التشريعية في الدول الإسلامية إلى توحيد التنظيم القانوني لمبدأ الرضا مستندة إلى الفقه الإسلامي.
- تطوير آليات إثبات الرضا في العقود الإلكترونية بما يتوافق مع الأصول الشرعية.
- تعزيز الوعي بالجوانب الشرعية في المعاملات المالية لدى العاملين في المجال المصرفي والمؤسسات المالية.
- إجراء مزيد من الدراسات المقارنة حول تطبيقات مبدأ الرضا في العقود المستجدة.
- الاستفادة من المرونة الفقهية الإسلامية في معالجة الإشكاليات المعاصرة المتعلقة بالرضا في العقود الحديثة.
6 المراجع
- القره داغي، علي محي الدين. (2008). مبدأ الرضا في العقود. بيروت: دار البشائر الإسلامية.
- الزحيلي، وهبة. (2010). نظرية العقد في الفقه الإسلامي. دمشق: دار الفكر.
- دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون المدني (الروماني والفرنسي والإنجليزي والمصري والعراقي). (2009). بيروت: دار البشائر الإسلامية.
- مجلة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية. (2021). الدراسات الفقهية المقارنة كآلية لتقليل الخلاف الفقهي. قسنطينة: الجزائر.
- العثمان، عبدالله بن محمد. (2020). الرضا في العقود الإلكترونية. مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، 45(2)، 115-145.
- نظام المعاملات المدنية السعودي. (2023). الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/73) وتاريخ 1444/4/24هـ.
- ابن ماجة، محمد بن يزيد. (بدون تاريخ). سنن ابن ماجة. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
- مجلة الأحكام العدلية. (بدون تاريخ). اسطنبول: المطبعة العمومية.
جميع الحقوق محفوظة © 2025 د. محمد عيدروس باروم
يسمح بالاقتباس مع الإشارة إلى المصدر
لا يسمح بإعادة النشر لأغراض تجارية دون إذن مسبق
تعليقات
إرسال تعليق