بحث أكاديمي يجمع بين الفقه الإسلامي والحوكمة الحديثة في إدارة الأوقاف
د. محمد عيدروس باروم
يُعدُّ الوقف أحد أهمِّ روافد التنمية في التاريخ الإسلامي، وهو نظامٌ اجتماعيٌ متكامل يحقق مقاصد شرعية سامية. وتكمنُ نجاحته في حسن إدارته والإشراف عليه، ومن هنا تبرزُ مكانة ناظر الوقف كأمينٍ على المال الوقفي، وليس مالكاً له. وقد جاءت النصوص الشرعية ومقاصد الشريعة لتؤكد على أن تصرفات ناظر الوقف مقيدة بالمصلحة الوقفية، وليست مطلقةً تتبع الهوى الشخصي. وفي عصرنا الحالي، برز إلى جانب الإشراف القضائي التقليدي دور المؤسسات الوقفية المتخصصة، وعلى رأسها الهيئة العامة للأوقاف في العديد من الدول الإسلامية، ويقابلها في بعض الدول وزارات أو هيئات مشابهة بحسب النظام الوطني، مما أضاف بُعداً جديداً لمنظومة الرقابة على النظار.
لقد أجمع الفقهاء على أن للإشراف القضائي دوراً محورياً في ضبط عمل ناظر الوقف، ويتجلى هذا الدور في عدة صور:
إذا خلا الوقف من ناظر، أو امتنع ناظر الوقف الأصلي عن القيام بمهمته، فإن للقاضي – ممثلاً للسلطة الشرعية – أن يعين ناظراً جديداً يضمن استمرارية الانتفاع بالوقف.
يلتزم القاضي عند تحديد أجر ناظر الوقف بمعيار "أجرة المثل"، مع مراعاة العدالة بين مصلحة الناظر ومصلحة الوقف وأهل الاستحقاق.
إذا امتنع ناظر الوقف عن القيام بتصرف ضروري لمصلحة الوقف – كإجراء ترميم عاجل أو استثمار مُربح – جاز للقاضي أن يتدخل وينصب من ينوب عنه في هذا التصرف حمايةً للمال الوقفي.
ذكر الفقهاء ثلاث جهات رئيسية تملك حق مساءلة ناظر الوقف ومحاسبته، وهي:
وذلك بصفتها المسؤولة عن حفظ المصالح العامة ورعاية شؤون الرعية، ومنها الأوقاف ذات النفع العام.
فهو الجهة المختصة بالفصل في المنازعات ومراقبة التصرفات، وله أن يصحح أي انحراف في إدارة ناظر الوقف.
وهم الفئة المستفيدة من ريع الوقف، ويحق لهم مراقبة ناظر الوقف ومطالبته بتقديم الحساب، والدفاع عن حقوقهم في حالة التقصير.
وهي جهة إدارية متخصصة تشرف على شؤون الأوقاف بشكل عام. وقد توسع دورها في السنوات الأخيرة ليشمل:
يتمتع القاضي بصلاحيات واسعة تجاه ناظر الوقف، تمكنه من تصحيح المسار وعللالاختلال، ومن أبرز هذه الصلاحيات:
إذا ثبت أن ناظر الوقف قد فقد شرطاً من شروط ولايته، كفقد العدالة أو خيانة الأمانة أو الإخلال الجسيم بمصلحة الوقف.
للقاضي أن يضمّ لناظر الوقف من يعاونه إذا دعت الحاجة، أو أن يستبدله بناظر آخر أكثر كفاءة وأمانة.
يحق للقاضي أن يطلب من ناظر الوقف إثبات صحة تصرفاته بالبينة، أو يحلفه اليمين على سلامة أعماله، وذلك بحسب نوع الوقف (عام أم خاص).
الأصل في شروط الواقف أن تُنفذ كما جاءت، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أحقَّ الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج". إلا أن الفقهاء – استناداً إلى فتاوى أئمة مجتهدين كابن تيمية وابن القيم – أجازوا للقاضي الإذن بمخالفة شرط الواقف في حالين:
إذا كان الالتزام بالشرط يضر بمصلحة الوقف، وكانت المصلحة في مخالفته أرجح.
إذا ترتب على التقيّد بالشرط ضررٌ واضح بأهل الوقف أو بالمال نفسه.
وتلعب الهيئة العامة للأوقاف دوراً استشارياً مهماً هنا، حيث تقدم دراسات الجدوى والمقترحات الفنية للقضاء حول المصلحة الراجحة من عدمها.
وقد قرر الفقهاء أن «المصلحة المرسلة» تُقدَّم على «الشرط» إذا أدى التزامه إلى تفويت مقصود الوقف، وهو ما ينسجم مع قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
خلاصة ما تقدم أن الإشراف على ناظر الوقف لم يعد مقصوراً على الآليات القضائية التقليدية فحسب، بل تطور ليشكل منظومة متكاملة من الرقابة تشارك فيها عدة أطراف:
الإشراف القضائي يظل هو الضمانة النهائية والسلطة الفاصلة في حالات النزاع.
دور الهيئة العامة للأوقاف يمثل الركيزة الإدارية والعلمية التي تعزز الرقابة المستمرة والوقائية.
هذا التكامل بين السلطتين القضائية والإدارية يحقق:
وبهذا يتبين أن الإشراف على ناظر الوقف يُمثل نموذجًا متكاملًا لتفاعل الفقه والقانون والإدارة، حيث تتلاقى العدالة الشرعية مع الحوكمة المؤسسية.