- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
التقادم في الأوقاف وحقوق المستحقين
دراسة تحليلية في التمييز بين الثبوت في الشرع والإثبات في النظام السعودي
الملخص
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل إشكالية التقادم في الأوقاف وحقوق المستحقين من خلال المنهج التحليلي المقارن بين الفقه الإسلامي والأنظمة السعودية ذات الصلة، في ضوء التطبيقات القضائية الحديثة. وتكشف النتائج عن وجود توازن دقيق بين الثبوت الشرعي للحقوق والإثبات النظامي، حيث يحافظ الفقه الإسلامي على أبدية الحقوق الوقفية بينما تنظم الأنظمة الحديثة وسائل إثباتها.
مقدمة
تُعد مسألة التقادم في الأوقاف من الإشكالات القانونية والشرعية الدقيقة، نظراً لطبيعة الوقف بوصفه حقاً مؤبداً، يجمع بين كونه صدقة جارية وذمة مالية عامة، ويُضاف إلى ذلك تعقيد حقوق المستحقين المتعاقبين عبر الأجيال. تبرز الإشكالية في حالة تعارض مبدأ عدم سقوط الحقوق الوقفية بتقادم الزمن مع قيود الإثبات القضائي التي تفرضها الأنظمة الحديثة. وتستند هذه الدراسة إلى المنهج التحليلي المقارن الذي يجمع بين الدراسة الفقهية والتحليل النظامي في ضوء التطبيقات القضائية الحديثة.
أولاً: المبادئ الشرعية في التقادم والوقف
يؤصل الفقه الإسلامي لمسألة التقادم من خلال التمييز بين ثبوت الحق وإثباته، وهو تمييز جوهري في فهم الإشكالية.
الأصل في الحقوق الوقفية
اتفقت المذاهب الأربعة على عدم سقوط الحقوق بالتقادم، مع اختلاف في تقدير القرائن. فالحقوق الوقفية لا تسقط بالتقادم لأن الوقف يُنسب إلى حق الله تعالى وحق المستفيدين، فلا يزول بترك المطالبة ولا بمرور الزمن. يقول العلامة ابن نجيم الحنفي في الأشباه والنظائر: «الحق لا يسقط بتقادم الزمان: قذفًا، أو قصاصًا، أو لعانًا، أو حقًّا للعبد».
الطبيعة التأبيدية للوقف
الوقف مؤبد بطبيعته، واستمراره لا يتأثر بالإهمال أو الانقطاع، وذلك لحكمة شرعية هي الحفاظ على أموال الوقف ومنع التلاعب بها أو الاستيلاء عليها بغير حق، استناداً إلى النهي عن أكل أموال الناس بالباطل الذي ورد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].
دور القرائن والعرف
إذا استقر عرف أو تعامل تاريخي في إدارة الوقف أو توزيع منافعه، فقد يأخذ به القاضي باعتباره قرينة على الاستقرار الوقفي، لا باعتباره إسقاطاً للحق. فالإعراض المديد عن رفع الدعوى مع التمكن من إقامتها يعد قرينة على عدم الحق ظاهراً، لأن العادة جارية بأن الإنسان لا يسكت عن حقه مدة طويلة من غير مانع.
ثانياً: التقادم بين الإثبات القضائي والثبوت الشرعي
يؤكد الفقه الإسلامي على أبدية الحقوق وعدم زوالها بمجرد مرور الزمن، لكنه يميز بين وجود الحق في ذمة صاحبه وبين إمكانية المطالبة به قضائياً.
الفرق الجوهري: الثبوت والإثبات
يتميز الفقه الإسلامي في تعامله مع مسألة التقادم بالتفريق بين ثبوت الحق وإثباته. فـ الثبوت يعني وجود الحق في ذمة صاحبه، وهو لا يتأثر بمرور الزمن، بينما الإثبات يعني القدرة على إثبات الحق قضائياً، وقد يتأثر بمرور الزمن. ويترتب على هذا التمييز أن الحكم الشرعي يقرر أن الحق لا يسقط بتقادم الزمان من حيث الثبوت، لكن قد تُرفض الدعوى من حيث الإثبات لطول المدة.
حكم سماع الدعوى
عدم سماع الدعوى بعد مضي مدة معينة ليس قاطعاً في عدم ثبوت الحق، وإنما هو ظن غالب، حيث إذا أقر الخصم بالحق لزمه. يقول العلامة ابن عابدين: «اعلم أن عدم سماع الدعوى بعد مضي ثلاثين سنة... ليس مبنياً على بطلان الحق في ذلك، وإنما هو مجرد منع للقضاة عن سماع الدعوى مع بقاء الحق لصاحبه».
التمييز بين الحكم القضائي والمسؤولية الدينية
مسألة الحق الذي مر عليه زمن طويل في ذمة جهة أخرى ولم يطالب به صاحبه، قد تسقط قضائياً بالتقادم ولا تسقط ديانة؛ لأن المال لا يُؤخذ بغير سبب شرعي، ولأن الحق أبدي لا يزول إلا بمسوغ معتبر.
الربط بين الثبوت والإثبات
يمكن القول إن الفقه يمنح الحق بعداً وجدانياً مطلقاً، بينما يمنحه النظام بعداً إجرائياً مشروطاً. ومن هنا جاءت فلسفة التقادم النظامي لضبط الإثبات لا لنفي الثبوت.
ثالثاً: موقف النظام السعودي من التقادم في الأوقاف
تميز الأنظمة السعودية الحديثة (نظام المرافعات الشرعية، نظام الوقف، والأنظمة العقارية) بين أنواع الحقوق في مسألة التقادم، في إطار مواءمة بين الأصول الشرعية ومتطلبات الاستقرار النظامي.
الحقوق العامة للوقف
لا تسقط بالتقادم، فلا يمكن إلغاء الوقف أو إنهاؤه بسبب مرور الزمن، حفاظاً على إرادة الواقف وتحقيقاً للمصلحة العامة التي أنشئ من أجلها الوقف.
الدعاوى الفردية والمالية
قد يسري عليها مبدأ عدم سماع الدعوى بعد مضي المدة، حمايةً للاستقرار وحسمًا للنزاعات المتأخرة، ومنعًا للادعاءات الكيدية.
اجتهاد القضاء السعودي
المحاكم وهيئة الأوقاف لا تلغي أصل الوقف بسبب التقادم، لكنها قد تمنع نظر بعض المطالبات إذا طال الزمن دون بينة أو مطالبة جدية، مع ترك مساحة لتقدير القاضي لملابسات كل حالة.
بُعد الولاية العامة في حفظ الوقف
يمتد أثر التقادم إلى مبدأ الولاية العامة في صيانة المال العام؛ إذ تمثل الهيئة العامة للأوقاف جهة وصاية شرعية ونظامية لا يُحتج بالتقادم ضدها فيما يتعلق بحقوق الوقف، لأن حقها قائم مقام الواقف والمستحقين. وهذا البعد يعزز الطابع المؤسسي ويربط بين الفقه المؤبد والنظام الحارس.
رابعاً: حقوق المستحقين بين السقوط والبقاء
أصل الحق في الاستحقاق
لا يسقط بالتقادم، لأنه مرتبط بشرط الواقف، والواقف كالنص الملزم: «شرط الواقف كنص الشارع».
الغلة الماضية
قد يُقضى بعدم سماع الدعوى بها إذا طال الزمن دون مطالبة، حمايةً للذمم ومنعًا لتعطيل الحسابات. فإذا ثبت غش أو استئثار من الناظر أُلزم برد الغلات الماضية.
الغلة المستقبلية
تثبت للمستحق بمجرد إثبات صفته، ولا يُحرم منها مطلقًا ولو أهمل المطالبة سابقًا، لأنها من صميم الحق الوقفي الذي لا يسقط بالتقادم.
خامساً: الخلاصة التطبيقية والتوصيات
على مستوى إدارة الأوقاف
- توثيق الحقوق الوقفية دوريًا والاحتفاظ بسجلات تاريخية لتوزيع الغلات.
- إنشاء سجلات دقيقة للمستفيدين وتحديثها المستمر.
- الشفافية في الإدارة ونشر الحسابات الختامية دوريًا.
- إصدار دليل توثيق حقوق المستحقين من قبل الهيئة العامة للأوقاف.
على مستوى المستفيدين
- المطالبة الدورية بالحقوق وعدم السكوت طويلًا.
- الاحتفاظ بالوثائق التي تثبت صفة الاستحقاق.
- المتابعة المستمرة لأخبار الوقف وأوضاعه المالية.
على مستوى الجهات القضائية والرقابية
- الموازنة بين الاستقرار النظامي والعدالة الشرعية في نظر الدعاوى الوقفية.
- مراعاة خصوصية كل حالة وقفية على حدة.
- التفريق بين الإهمال المتعذر والإهمال المطلق في تقدير أسباب التأخر.
- تبنّي أرشفة رقمية تربط كل مستحق بمعرّف موثق.
خاتمة
يتبين أن نظام التقادم في الأوقاف يحمي الاستقرار ولا يُلغي الحقوق، مع بقاء حقوق المستحقين محفوظة في أصلها وإن خضعت بعض آثارها الزمنية لتقييد إجرائي. لذلك تستلزم المعالجة موازنة دقيقة بين مقاصد الشريعة في حفظ المال والحق، ومقاصد النظام في تحقيق الاستقرار والثقة القانونية، لتظل الأوقاف مؤسسات خادمة للتنمية وعدالة للأجيال المتعاقبة.
المراجع
١. ابن عابدين، محمد أمين بن عمر. (١٩٦٦). رد المحتار على الدر المختار. مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
٢. ابن نجيم، زين الدين بن إبراهيم. (١٩٩٩). الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان. القاهرة: المكتبة التوفيقية.
٣. المملكة العربية السعودية. (١٤٣٤هـ). نظام المرافعات الشرعية.
٤. المملكة العربية السعودية. (١٤٤٣هـ). نظام الوقف.
قد تبدو تواريخ النشر متقاربة، نظرًا لعملية نقل وأرشفة الأبحاث والمقالات إلى المدونة بعد تدشينها.
© 2025 جميع الحقوق محفوظة
د. محمد عيدروس باروم
يُسمح بالاقتباس لأغراض علمية وغير ربحية مع الإشارة إلى المصدر
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
تعليقات
إرسال تعليق