حوكمة التأمين الصحي الوطني: من الطموح إلى الاستدامة
د. محمد عيدروس باروم — باحث في القيادة والحوكمة والاستراتيجية والوقف
مقدمة
يشكّل إطلاق التأمين الصحي الوطني في العديد من البلدان نقلة نوعية في مسار تحقيق التغطية الصحية الشاملة، التي تمثّل أحد الأهداف الاستراتيجية ضمن أجندة التنمية المستدامة 2030. ومع ذلك، يظل السؤال المحوري: كيف يمكن تحويل هذا الطموح السياسي والاجتماعي إلى نموذج مستدام قادر على الصمود أمام التحديات الديموغرافية والمالية والتكنولوجية؟ هنا تبرز الحوكمة بوصفها حجر الزاوية الذي تُبنى عليه استدامة النظام الصحي وقدرته على الاستمرار والتطور.
الإطار المفاهيمي لحوكمة التأمين الصحي
- الشفافية والمساءلة: في إدارة الموارد المالية واتخاذ القرارات.
- المشاركة الفاعلة: لممثلي المجتمع، والقطاع الخاص، والخبراء في صنع السياسات.
- الكفاءة والفاعلية: في تقديم الخدمات الصحية وشراء الخدمات من مقدميها.
- العدالة: في توزيع الأعباء المالية وتكافؤ فرص الحصول على الخدمات.
- سيادة القانون: من خلال أطر تشريعية ورقابية رصينة تضمن الامتثال والإنصاف.
التحديات التي تواجه الحوكمة الفاعلة
- التفتت المؤسسي: تداخل صلاحيات هيئات التأمين مع وزارات الصحة وهيئات الرعاية، مما يؤدي إلى ازدواجية في الجهود وتضارب في المسؤوليات.
- تحديات التمويل: ضعف آليات جمع الاشتراكات، خاصة من القطاع غير الرسمي، إضافة إلى الضغوط الناتجة عن ارتفاع تكاليف الخدمات والصدمات الصحية غير المتوقعة.
- فجوة البيانات: غياب نظم معلومات متكاملة توفر بيانات دقيقة حول التكاليف وجودة الخدمات والنتائج الصحية، مما يعيق اتخاذ القرار القائم على الأدلة.
- تعارض المصالح: خصوصًا في العلاقة بين جهة الدفع (هيئة التأمين) ومقدمي الخدمات (المستشفيات والعيادات)، بما قد يفضي إلى الإفراط في تقديم الخدمات أو خفض جودتها.
منظومة الحوكمة المتكاملة للاستدامة
- الاستقلالية والمساءلة: تمكين هيئة التأمين الصحي من استقلال إداري ومالي كافٍ، مع خضوعها لمساءلة مجلس إدارة مستقل يمثل جميع أصحاب المصلحة، بمن فيهم ممثلو المجتمع.
- آليات شراء الخدمات الذكية: التحول من نموذج الدفع مقابل الخدمة إلى نماذج قائمة على القيمة والنتائج الصحية، مع تطبيق نظام الاعتماد الإلزامي لمقدمي الخدمات.
- بناء نظم معلومات وطنية: رقمنة العمليات وربط قواعد البيانات بين هيئة التأمين ومقدمي الخدمات، لضمان المتابعة الدقيقة للأداء والكشف المبكر عن الاختلالات.
- الحوكمة التشاركية: إنشاء منصات تفاعلية للمواطنين لقياس رضاهم وملاحظاتهم، بما يعزز الثقة والشفافية في النظام.
- الأطر التشريعية والرقابية: تطوير القوانين لمواكبة المتغيرات، وتعزيز دور الأجهزة الرقابية المالية والإدارية لضمان النزاهة ومكافحة الهدر والفساد.
الخاتمة والتوصيات
إن الانتقال من الطموح إلى الاستدامة في مشروع التأمين الصحي الوطني ليس مجرد تحديث إداري، بل تحوّل جوهري في نموذج الحوكمة الصحية. فالنجاح لا يقاس بعدد المستفيدين فحسب، بل بقدرة النظام على تحقيق العدالة والكفاءة والمساءلة في آن واحد. يتطلب ذلك إرادة سياسية وإدارية حقيقية تتبنّى إصلاحات هيكلية جريئة، ترفض الحلول التجميلية، وتؤسس لنظام صحي يحمي الحق في الصحة بوصفه حقًا إنسانيًا وتنمويًا. فقط عبر تبنّي نموذج حوكمة متكامل يمكن تحويل التأمين الصحي الوطني من طموح وطني كبير إلى نظام صحي مستدام يضمن كرامة المواطن ويصون مكتسبات التنمية للأجيال القادمة.
© 2025 جميع الحقوق محفوظة
د. محمد عيدروس باروم
يُسمح بالاقتباس لأغراض علمية وغير ربحية مع الإشارة إلى المصدر
تعليقات
إرسال تعليق