إعداد: د. محمد عيدروس باروم
تقدم هذه الورقة إطارًا متكاملاً لدراسة علم إدارة الحشود من خلال عدسة الاستراتيجية المؤسسية الشاملة. تبحث الدراسة في العلاقة التكافلية بين التخطيط الاستراتيجي كمنظم للرؤية، والإدارة الاستراتيجية كآلية للتنفيذ، والقيادة كمحرك للتوجيه الميداني. من خلال تحليل نماذج ناجحة مثل إدارة الحشود في موسم الحج بالمملكة العربية السعودية، تثبت الورقة أن الفعالية في إدارة التجمعات البشرية الضخمة لا تعتمد على الإجراءات التكتيكية فحسب، بل على تكامل هذه المستويات الاستراتيجية معًا لضمان السلامة وتحقيق الأهداف.
إدارة الحشود (Crowd Management) لم تعد مجرد مسألة تنظيمية أو لوجستية؛ بل أصبحت علمًا متكاملاً يتداخل مع التخطيط الاستراتيجي والإدارة الاستراتيجية والقيادة. تزايدت أهميتها في البيئات المعاصرة، خصوصًا في الأحداث الكبرى مثل الحج، والفعاليات الرياضية، والتجمعات السياسية، حيث تمثل الإدارة الفعّالة للحشود ركيزة للأمن والسلامة وتحقيق الأهداف المؤسسية والمجتمعية الأوسع.
شهد العالم تنظيم عدد متزايد من الأحداث الضخمة التي تجذب حشودًا هائلة. وأدت الكوارث المرتبطة بالحشود تاريخيًا إلى تسليط الضوء على الأهمية الحرجة للإدارة العلمية لها. لم يعد التعامل مع الحشود مجرد مسألة أمنية، بل تحول إلى علم قائم بذاته يهدف إلى فهم القوانين الفيزيائية والنفسية التي تحكم سلوك المجموعات الكبيرة من البشر لضمان سلامتهم وراحتهم. تهدف هذه الورقة إلى تقديم مقاربة استراتيجية شاملة تربط هذا العلم بالأطر التنظيمية الأساسية للمؤسسات الحديثة.
يركز علم إدارة الحشود على دراسة سلوك الجماعات الكبيرة، وتصميم المساحات الفيزيائية لتقليل مخاطر التدافع والاختناق، وإدارة الحركة لتحقيق تدفق آمن. وهو مجال متعدد التخصصات يستمد أسسه من علم النفس الاجتماعي، والهندسة، وعلم الاجتماع. تشمل اهتماماته الرئيسية قياس عوامل حاسمة مثل الكثافة (عدد الأشخاص في المتر المربع)، السرعة، والتدفق، والتي تحدد بشكل مباشر مستوى السلامة في التجمعات.
يمثل التخطيط الاستراتيجي حجر الأساس في المقاربة الاستراتيجية. هو العملية التي يتم من خلالها تحديد الاتجاه طويل المدى للمنظمة أو الحدث. يجيب التخطيط الاستراتيجي على أسئلة جوهرية: "أين نحن الآن؟" و"إلى أين نريد الوصول؟".
الإدارة الاستراتيجية هي العملية المستمرة التي تدمج التخطيط والتنفيذ والمراقبة، بما يضمن ربط القرارات اليومية بالأهداف الكبرى.
القيادة الاستراتيجية هي الجسر الذي يربط بين الخطة والتنفيذ العملي. في سياق إدارة الحشود، تبرز أهميتها عند مواجهة الأزمات، حيث تكون سرعة القرار ووضوح التوجيه حاسمة.
يتجلى التكامل الاستراتيجي في إدارة الحشود عبر ثلاثة مستويات مترابطة:
يتضمن تحديد الرؤية الشاملة، تحليل المخاطر، وضع الأهداف طويلة المدى، وتحديد السعة القصوى الآمنة للحشود. مثال ذلك: التخطيط المسبق لكل موسم حج، والاستثمار في البنية التحتية الدائمة مثل جسر الجمرات وشبكة القطارات.
تركز على توزيع الموارد وصياغة السياسات وتصميم العمليات التشغيلية، إضافة إلى المراقبة والتقييم المستمر للأداء. ومن أبرز النماذج: استخدام منصات الذكاء الاصطناعي ("بصير" و"سواهر")، والتكامل بين الجهات عبر مركز العمليات الذكية.
تمثل البعد الميداني من خلال توجيه الفرق، اتخاذ القرارات تحت الضغط، وضمان التواصل الفعال وإدارة الأزمات. ويتضح ذلك في التوجيه الميداني للحشود، واستخدام تطبيق "توكلنا" للتواصل مع الحجاج، وقيادة فرق الطوارئ.
تجربة المملكة العربية السعودية في إدارة حشود الحج تقدم نموذجًا عالميًا رائدًا في التكامل الاستراتيجي، عبر رؤية واضحة، استثمارات ضخمة، تقنيات ذكاء اصطناعي، ومركز عمليات موحد.
إدارة الحج لا تنفصل عن أهداف رؤية ٢٠٣٠، خاصة ركيزة "مجتمع حيوي"، ما يجعل نجاحها أداة استراتيجية لتعزيز مكانة المملكة عالميًا.
تؤكد هذه الورقة أن إدارة الحشود الفعّالة هي نتاج تكافل استراتيجي بين التخطيط الدقيق، الإدارة المتكاملة، والقيادة الميدانية. التجربة السعودية في الحج تقدم درسًا عالميًا يمكن نقله إلى مختلف السياقات لضمان سلامة الحشود ونجاح الأحداث الكبرى.