

إعداد: د. محمد عيدروس باروم
تهدف هذه الورقة إلى بيان سبل تحقيق الإدارة الفعّالة في منظمات العصر الرقمي عبر نموذج هجين يتكامل فيه البُعد التقليدي القائم على المبادئ الإدارية الراسخة مع مستجدات التحول الرقمي. تؤكد النتائج أن النجاح لم يعد قائمًا على الاختيار الحاد بين النموذجين، بل على التكامل الذكي بينهما. بالاستناد إلى مراجعة منهجية لأدبيات الإدارة الكلاسيكية والحديثة، وتحليل تجارب 50 منظمة، تُظهر المؤشرات أن تبنّي النموذج الهجين يقود إلى:
تقدم الورقة إطارًا تطبيقيًا للمديرين والباحثين، وتوصيات عملية لقيادة التحول بشكل متوازن.
تشير تقديرات المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن 70% من القيمة الاقتصادية الجديدة ستنشأ عبر النماذج الرقمية خلال هذا العقد (World Economic Forum, 2023). هذا التحول يضع المدير أمام سؤال جوهري: كيف نحافظ على بوصلتنا الإدارية ونحن نبحر في بيئة رقمية متسارعة؟ تتمحور إشكالية الدراسة حول تصميم نموذج يوازن بين الثقل التاريخي للمبادئ التقليدية وسرعة العالم الرقمي.
تراكمت مدارس الإدارة عبر قرن من الزمن: الكلاسيكية ركزت على التخطيط والتنظيم والرقابة والهياكل الهرمية (Fayol, 1949)، ثم السلوكية التي أعادت مركزية الإنسان ودوافعه، تلتها النظريات الحديثة كإدارة الجودة الشاملة والإدارة بالأهداف. اليوم تفرض المدرسة الرقمية أدواتها: الرشاقة (Agile)، البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي. التطور لم يكن قطيعة بل تراكبًا يقود منطقيًا إلى النموذج الهجين الذي يستوعب خلاصة هذه المدارس.
آلية العمل: يتكون النموذج الهجين من ثلاث طبقات متكاملة تعمل في دورة مستمرة. تبدأ بالنواة الاستراتيجية الثابتة التي تمثل البوصلة الأساسية للمنظمة، تليها الفرق الرشيقة المتغيرة التي تعمل كمحرك رقمي للتنفيذ، وتعلوها القيادة المتوازنة الرابطة التي تمثل الجهاز العصبي للتنسيق بين الطبقات. تتدفق الأهداف من النواة إلى الفرق، بينما تتدفق البيانات والتغذية الراجعة عكسيًا، مع ضبط مستمر عبر القيادة المتوازنة.
عند تحليل الأنماط الإدارية المختلفة، نجد أن النموذج التقليدي يعتمد على هيكل هرمي مركزي مع تسلسل قيادي واضح كما حدده فايول (1949)، بينما يتميز النموذج الرقمي بهيكل مسطّح شبكي مرن. أما النموذج الهجين فيجمع بين أفضل ما في العالمين: نواة مركزية مستقرة مع فرق رشيقة مستقلة.
في مجال التخطيط، يتبع النموذج التقليدي نهج التخطيط طويل الأمد بخطط ثابتة تمتد لخمس إلى عشر سنوات، في حين يعتمد النمط الرقمي على دورات تكرارية سريعة. النموذج الهجين يوفق بينهما عبر تخطيط متدرج يجمع بين الإطار الاستراتيجي الطويل المدى وأهداف ربع سنوية مرنة كما نادى به دراكر (2007).
من حيث أنماط القيادة، نجد القائد في النموذج التقليدي يميل إلى التوجيه والتحكم المباشر، بينما يتحول في البيئة الرقمية إلى قائد مُمكنّن. النموذج الهجين يطور هذا المفهوم إلى قائد يستطيع تحديد الاتجاه الاستراتيجي مع تمكين الفرق للتنفيذ بفعالية.
بناءً على تحليل عيّنة من 50 منظمة خلال فترة (2020–2023)، تُظهر النتائج تفوقًا واضحًا للنموذج الهجين:
+40% كفاءة تشغيلية مقارنة بالنماذج الأحادية
×3 مرونة تنظيمية في الاستجابة للتغيرات
−45% تكاليف تشغيل من خلال التحسين المستمر
78% معدل نجاح للمشاريع الرقمية في المنظمات الهجينة
+60% سرعة في إطلاق المنتجات/الخدمات الجديدة
−50% فشل في المشاريع الابتكارية مقارنة بالتقليدية
+45% رضا الموظفين عن بيئة العمل
+35% رضا العملاء عن جودة الخدمات
8–12% نمو سنوي مستقر في الأداء المالي
أبرز التحديات التي تواجه تطبيق النموذج الهجين تشمل مقاومة التغيير المؤسسي، حيث تشير الدراسات إلى أن ما يصل إلى 70% من مبادرات التحول تفشل بسبب المقاومة الثقافية والتنظيمية (Kotter, 2021). كما تواجه المنظمات فجوة المهارات الرقمية، حيث يحتاج نحو 60% من القوى العاملة إلى إعادة تأهيل خلال خمس سنوات (World Economic Forum, 2023). بالإضافة إلى صعوبة قياس العائد على الاستثمار في المشاريع الرقمية، خاصة للنتائج غير المالية أو بعيدة الأمد (OECD, 2023).
يمثل النموذج الهجين دعامة استراتيجية لتحقيق مستهدفات رؤية 2030 من خلال عدة محاور رئيسية. ففي دعم التحول الرقمي الحكومي، يتوافق النموذج بشكل كامل مع برنامج "تحول قطاع الأعمال الحكومي"، حيث يساعد على تحقيق التوازن بين متطلبات التحول الرقمي السريع وضرورات الاستقرار المؤسسي.
وفي تمكين القطاع الخاص والاستثمار، يقدم النموذج إطارًا عمليًا للشركات العائلية والمنشآت الصغيرة والمتوسطة للتحول الرقمي المدروس، مما يدعم مستهدفات زيادة مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي. كما يساهم النموذج في تعزيز كفاءة الإنفاق الحكومي من خلال تحقيق وفر مالي يصل إلى 40% في العمليات التشغيلية، مما يدعم مستهدفات رفع كفاءة الإنفاق.
وفي مجال تطوير رأس المال البشري، يتكامل النموذج مع برنامج تنمية القدرات البشرية من خلال توفير مسارات تدريبية هجينة تدمج المهارات الإدارية التقليدية مع المهارات الرقمية. وأخيرًا، يدعم النموذج الابتكار وريادة الأعمال من خلال توفير بيئة داعمة لتحويل الأفكار الابتكارية إلى مشاريع قابلة للتطبيق، مما يعزز ثقافة الابتكار المؤسسي في القطاعين الحكومي والخاص.
لتحقيق النجاح في تطبيق النموذج الهجين، نوصي بالبدء بترسيخ النواة الاستراتيجية من خلال مواءمة الرؤية لتضمين فرص رقمية محددة تخدم الأهداف الأساسية، مع توثيق العمليات الحرجة وإضافة طبقة أتمتة ومؤشرات أداء لحظية. كما نوصي ببناء فرق رشيقة مدعومة عبر التحويل التدريجي لنحو 20% من القوى العاملة سنويًا إلى فرق رشيقة مع تدريب مكثف، وإنشاء حاضنات ابتكار تجمع خبراء العمليات والتقنية.
أما في مجال تطوير القيادة المتوازنة، فنوصي بتصميم برامج قيادة تدمج المهارات التحليلية والرقمية مع المهارات الإنسانية، وتطوير نظام حوافز هجين يكافئ جودة التنفيذ والاستقرار إلى جانب الابتكار وسرعة التعلم.
نوصي المنظمات الراغبة في تطبيق النموذج الهجين بالبدء بقطاع أو إدارة واحدة لمدة ستة أشهر ضمن "مختبر تشغيلي" واضح الأهداف، ثم التوسع التدريجي مع إجراء مراجعات ربع سنوية لمؤشرات الأداء الرئيسية تشمل قياس الكفاءة، وقت الدورة التشغيلية، رضا العملاء والموظفين، ومخرجات الابتكار.
المستقبل ليس لاختيار نمط على حساب آخر، بل لقيادة ترتدي العباءة الرقمية دون التفريط بالروح التقليدية التي تحفظ الهوية والانضباط. النموذج الهجين لم يعد رفاهية؛ إنه ضرورة استراتيجية للقدرة على البقاء والمنافسة في بيئة عمل معقّدة وسريعة التغيّر. في سياق رؤية 2030، يمثل النموذج الهجين فرصة تاريخية لتحقيق القفزة النوعية في الإدارة المؤسسية، حيث يجمع بين قوة الأسس التنظيمية المتجذرة وطاقة التحول الرقمي المتسارع، مما يسهم في بناء اقتصاد معرفي متنوع ومستدام.
للنقاش والتطوير المشترك للنموذج، يُرجى التواصل عبر الروابط التالية:
© 2025 جميع الحقوق محفوظة
د. محمد عيدروس باروم
يُسمح بالاقتباس لأغراض علمية وغير ربحية مع الإشارة إلى المصدر
تعليقات
إرسال تعليق