إعداد: د. محمد عيدروس باروم
تستعرض هذه الدراسة التطور التاريخي لمعايير قياس نجاح المشاريع، حيث انتقلت من النموذج التقليدي المتمثل في "المثلث الحديدي" (الوقت، التكلفة، النطاق) إلى نماذج أكثر شمولية متعددة الأبعاد. تشمل هذه النماذج الحديثة معايير نوعية مثل جودة المخرجات، ورضا أصحاب المصلحة، وتحقيق الأهداف الاستراتيجية، والاستدامة، والتأثير المجتمعي. تقدم الورقة إطاراً متكاملاً لفهم هذه المعايير وأدوات قياسها، مع تطبيقات عملية من خلال دراسات حالة، وتختتم بتوصيات للممارسين لتبني هذه النماذج الشاملة في تقييم نجاح مشاريعهم.
تنبع إشكالية هذه الدراسة من أن الاعتماد التاريخي على نموذج "المثلث الحديدي" لم يعد كافيًا في ظل التعقيد المتزايد للمشاريع المعاصرة وتعدد أبعاد نجاحها. فالنموذج التقليدي يقصر في تقديم صورة شاملة عن النجاح الحقيقي للمشاريع التي تتسم بالتعقيد والترابط مع الأهداف الاستراتيجية للمنظمات.
هل يؤدي إدماج الأبعاد الاستراتيجية والنوعية إلى قياس أدق وأكثر واقعية لنجاح المشاريع مقارنة بالنموذج التقليدي القائم على المثلث الحديدي؟
في عالم إدارة المشاريع المتطور، لم يعد نجاح المشروع يُقاس فقط بالتسليم في الوقت المحدد والالتزام بالميزانية وتحقيق النطاق المطلوب. لقد تطورت مفاهيم النجاح لتصبح أكثر شمولية وتعقيداً، مما يستدعي تبني نماذج متعددة الأبعاد لفهم وتقييم نجاح المشاريع بشكل دقيق. هذه الورقة تستعرض التطور التاريخي لمعايير نجاح المشروع، بدءاً من المثلث الحديدي التقليدي ووصولاً إلى النماذج الحديثة التي تراعي أبعاداً جديدة مثل رضا أصحاب المصلحة والتأثير الاستراتيجي والاستدامة.
يُعرف المثلث الحديدي (Iron Triangle) أيضاً باسم "مثلث إدارة المشاريع" أو "القيود الثلاثية"، وهو نموذج تقليدي يرتكز على ثلاثة أبعاد أساسية:
يظل المثلث الحديدي أداة أساسية في موازنة المتطلبات المتنافسة للمشاريع. ومع ذلك، فإنه يعاني من قيود كبيرة، حيث يركز على الجوانب الكمية ويتجاهل جوانب نوعية مثل رضا العملاء وتحقيق الأهداف الاستراتيجية. بالإضافة إلى ذلك، فإن التغيير في أحد أضلاع المثلث يؤثر حتماً على الأضلاع الأخرى، مما قد يؤدي إلى خفض الجودة إذا لم يتم إدارة هذه القيود بفعالية.
أظهرت الدراسات أن نجاح المشروع لا يعتمد فقط على الالتزام بالوقت والتكلفة والنطاق، بل يتعداه إلى عوامل أخرى مثل:
قدمت بعض النماذج الحديثة أبعاداً إضافية لقياس نجاح المشروع، مثل إطار الجوانب الستة الذي يتضمن:
هذا الإطار يوسع مفهوم النجاح ليشمل إدارة المخاطر وضمان الجودة، مما يجعله أكثر شمولية من المثلث الحديدي.
من المهم التمييز بين معايير النجاح (Success Criteria) وعوامل النجاح (Success Factors):
تتضمن النماذج المتقدمة معايير أخرى لقياس النجاح، مثل:
وقد أشار PMI في الإصدار السابع من دليل إدارة المشاريع (PMBOK 7th Edition) إلى أن نجاح المشروع أصبح يُقاس من خلال ما يحققه من قيمة مستدامة لأصحاب المصلحة، وليس فقط عبر الالتزام بالمثلث التقليدي. هذا التحول يعكس الانتقال من إدارة القيود إلى إدارة القيمة (Value Management)، حيث يتم التركيز على تحقيق الأثر الاستراتيجي طويل الأجل.
في حين يقتصر النموذج التقليدي على ثلاثة أبعاد أساسية (الوقت، التكلفة، النطاق)، توسعت النماذج متعددة الأبعاد لتشمل الجودة، ورضا أصحاب المصلحة، وتحقيق الأهداف الاستراتيجية، والاستدامة، والتأثير المجتمعي. هذا التوسع في معايير القياس يعكس إدراكاً متزايداً لأهمية الجوانب النوعية والاستراتيجية في تقييم النجاح الشامل للمشاريع، خاصة في ظل تعقيد المشاريع المعاصرة وتشابكها مع الأبعاد المجتمعية والاستراتيجية.
أصبحت أدوات إدارة المشاريع ضرورية لمراقبة المعايير متعددة الأبعاد، مثل:
تُستخدم تقارير حالة المشروع لتوفير رؤية شاملة عن أداء المشروع، تغطي ليس فقط الوقت والتكلفة ولكن أيضاً الجودة والمخاطر ورضا أصحاب المصلحة. تساعد هذه التقارير في اتخاذ قرارات مستنيرة وتنفيذ إجراءات تصحيحية عند الضرورة.
في مشروع تطوير برمجيات، الالتزام بالوقت والتكلفة والنطاق لا يضمن النجاح إذا كانت الجودة منخفضة أو إذا لم يحقق المنتج رضا العملاء. هنا، تصبح معايير مثل عدد الأخطاء بعد التسليم وتقييمات المستخدمين مؤشرات حاسمة للنجاح.
في إحدى الدراسات (استنادًا إلى دراسة Davis, 2017 في Project Management Journal)، وجد أن المشاريع التي حققت معدل رضا عملاء превышающий 90% كانت أكثر نجاحاً على المدى الطويل، حتى إذا تجاوزت الميزانية المخطط لها بنسبة 15%.
في المشاريع الاستثمارية، يُعتبر العائد على الاستثمار (ROI) وتحقيق الأهداف الاستراتيجية من المعايير الأساسية للنجاح، إلى جانب الالتزام بالميزانية والجدول الزمني.
دراسة لمشروع استثماري في القطاع الصحي أظهرت أن المشروع حقق عائداً على الاستثمار بلغ 22% وساهم في تحقيق رؤية المنظمة الاستراتيجية في تحسين جودة الخدمات الصحية بنسبة 35%.
ويبرز هذا التحول بشكل خاص في المشاريع التنموية الوطنية مثل مشاريع رؤية المملكة 2030، التي لا يُقاس نجاحها بالميزانية والجدول الزمني فقط، بل بقدرتها على تحقيق أثر مجتمعي وэкономиي مستدام. فمشاريع الرؤية تعتمد على نماذج تقييم متعددة الأبعاد تراعي الأثر الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، مما يجعلها نموذجاً تطبيقياً للنماذج الحديثة لقياس نجاح المشاريع.
تطور مفهوم نجاح المشروع من النموذج التقليدي (المثلث الحديدي) إلى نماذج متعددة الأبعاد تشمل معايير نوعية وكمية. لكي تكون إدارة المشاريع فعالة، يجب على المديرين:
إن نجاح المشروع في القرن الحادي والعشرين لم يعد غاية كمية فقط، بل قيمة استراتيجية مستدامة، وهو ما يفرض على الممارسين تبني منظور شامل يعانق التعقيد ويترجم النجاح إلى أثر ملموس للمنظمة والمجتمع. بهذا النهج، يمكن تحقيق نجاح حقيقي ومستدام للمشاريع، يتجاوز المقاييس التقليدية ليحقق قيمة مضافة للمنظمة والمجتمع، ويساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة ورؤية 2030.
تعليقات
إرسال تعليق