ورقة أكاديمية

الاستراتيجية: المفهوم، التصنيفات، المناهج، الأهداف، والنظريات الأساسية

إعداد: د. محمد عيدروس باروم

الملخص

يقدم هذا المقال تحليلًا أكاديميًا مقارنًا لمفهوم الاستراتيجية الذي يشكل حجر الزاوية لنجاح المنظمات والدول في ظل التحولات العالمية المتسارعة كالعولمة والتحول الرقمي. يعتمد المقال منهجًا تحليليًا يتتبع التطور التاريخي للمفهوم من جذوره العسكرية إلى تطبيقاته الحديثة في الإدارة والأعمال. كما يعرض أنواع الاستراتيجيات بحسب مستوياتها وطبيعتها، ومناهج صياغتها، وأهدافها، وأبرز نظرياتها الكلاسيكية والمعاصرة. ويختتم المقال بإطار تطبيقي يساعد القادة والممارسين على اختيار المنهج الأنسب وتحويل الاستراتيجية من وثيقة جامدة إلى ممارسة حية قابلة للقياس والتكيف.

الكلمات المفتاحية: استراتيجية، التخطيط الاستراتيجي، تحليل SWOT، الموارد والقدرات، المنافسة، تنفيذ الاستراتيجية، القدرات الديناميكية، الإطار التطبيقي للاستراتيجية.

1. المقدمة

يحظى مفهوم الاستراتيجية باهتمام واسع في الأدبيات الإدارية والعسكرية والسياسية. ويُعزى ذلك إلى كونه يمثل خارطة طريق توجه الجهود نحو أهداف بعيدة المدى في بيئات معقدة ومتغيرة. وقد ازدادت أهميته مع العولمة والثورة الصناعية الرابعة والتحول الرقمي والأزمات الاقتصادية والصحية المتلاحقة. لم يعد المفهوم حكرًا على القادة العسكريين، بل أصبح أداة أساسية لإدارة المنظمات بمختلف أحجامها، وحتى لتوجيه سياسات الدول؛ وتُعد رؤية السعودية 2030 نموذجًا لاستراتيجية وطنية طموحة. ينطلق المقال من فرضية أن الفهم المتكامل للاستراتيجية يتطلب الغوص في أبعادها: المفهومي، التصنيفي، المنهجي، والتنظيري، مع الاعتراف بتعدد المدارس الفكرية واختلاف منطلقاتها.

2. مفهوم الاستراتيجية: من الجذور العسكرية إلى الفكر الإداري

يرجع مصطلح الاستراتيجية إلى الكلمة اليونانية Strategia بمعنى فن القيادة. في الإدارة الحديثة، عرّفها تشاندلر بأنها تحديد الأهداف طويلة الأجل وتخصيص الموارد اللازمة لتحقيقها. بينما اعتبر مينتزبرغ أن الاستراتيجية ليست خطة فحسب، بل نمط متسق من السلوك ينشأ مع مرور الزمن (استراتيجية ناشئة). ومن أمثلة ذلك ما برز خلال جائحة كوفيد-19، حين طورت شركات ناشئة استراتيجيات ابتكار بالتكيف عبر الانتقال السريع إلى قنوات رقمية وسلاسل توريد مرنة.

تعريف جامع: الاستراتيجية هي نسق متكامل من القرارات والأفعال يرمي إلى خلق ميزة تنافسية مستدامة عبر مواءمة موارد المنظمة وقدراتها مع متطلبات البيئة لتحقيق أهدافها طويلة الأجل.

3. أنواع الاستراتيجيات

أ) حسب المستوى التنظيمي

  • استراتيجية الشركة (Corporate): تحدد نطاق عمل المنظمة وإدارة محفظة الأعمال بما يشمل التكامل الأفقي والرأسي والتنويع. مثال: توجه أرامكو للاستثمار في الكيميائيات والطاقة منخفضة الانبعاثات.
  • استراتيجية الأعمال (Business): كيف ننافس داخل قطاع محدد (قيادة التكلفة، التميز، التركيز).
  • الاستراتيجية الوظيفية (Functional): سياسات الوحدات التشغيلية (التسويق، الموارد البشرية، الإنتاج، التمويل) لدعم المستويات الأعلى.

ب) حسب الطبيعة والاتجاه

  • مخططة (Intended) مقابل ناشئة (Emergent).
  • النمو: تغلغل السوق، تطوير السوق، تطوير المنتج، التنويع.
  • الاستقرار: الحفاظ على الوضع القائم وتحسينه.
  • الانكماش: الانسحاب، التصفية، الاستقطاب.
  • التنافسية: هجومية أو دفاعية وفقًا لمتغيرات السوق.

4. مناهج صياغة الاستراتيجية (مدارس التفكير)

  • المدرسة التخطيطية (Planning): صياغة منهجية تعتمد التحليل مثل SWOT وخططًا مفصلة.
  • المدرسة التكيفية/الموضعية (Adaptive/Positioning): تركز على هيكل الصناعة وقوى بورتر الخمس.
  • المدرسة التفسيرية (Interpretive): الاستراتيجية بناء اجتماعي ينبع من تصورات وقيم مشتركة.
  • مدرسة الثقافة التنظيمية (Cultural): الاستراتيجية تنبع من القيم المؤسسية؛ والتغيير يصعب إن خالف الثقافة.
  • مدرسة السلطة (Power): عملية سياسية قائمة على تفاوض وصراع مصالح.
  • مدرسة التعلم (Learning): نتاج تدريجي للتجربة والتكيف في بيئة معقدة.

5. أهداف الاستراتيجية

تُترجم الأهداف إلى مؤشرات أداء رئيسية (KPIs) وأهداف ونتائج أساسية (OKRs) قابلة للقياس:

  • تحقيق ميزة تنافسية مستدامة.
  • التكيف مع البيئة المتغيرة.
  • توجيه الجهود نحو أهداف مشتركة.
  • دعم اتخاذ قرارات رشيدة.
  • الوصول إلى مستويات أداء مالي وتشغيلي متفوقة.

6. النظريات الأساسية في الاستراتيجية

  • المنظور المعتمد على الموارد (RBV): موارد وقدرات نادرة وغير قابلة للتقليد (VRIO).
  • القدرات الديناميكية: (تيسي وبيزانو، 1997) إعادة تشكيل الموارد سريعًا لمواكبة التغيرات.
  • الميزة التنافسية لبورتر: اختيار واضح بين قيادة التكلفة أو التميز أو التركيز.
  • النظرية المؤسسية: الضغوط المؤسسية/القانونية/المجتمعية تدفع للتشابه طلبًا للشرعية (مثل الالتزام بـ GDPR أو متطلبات ESG).
  • نظرية اللعبة: تحليل التفاعلات الاستراتيجية حيث يعتمد عائد طرف على قرارات الآخرين.
  • استراتيجية المحيط الأزرق: خلق مساحات سوقية جديدة بدل المنافسة الدموية.

7. الإطار التطبيقي لاختيار وتنفيذ الاستراتيجية

  1. التشخيص الدقيق: SWOT وPESTEL وخريطة أصحاب المصلحة.
  2. تحديد المستوى: مواءمة بين استراتيجيات الشركة والأعمال والوظائف.
  3. فرضية التنافس: تكلفة/تميز/ابتكار/استغلال مورد فريد.
  4. مواءمة التشغيل: تصميم نموذج الأعمال والحوكمة بما يخدم الاستراتيجية المختارة.
  5. القياس والتعلم: تحويل الأهداف إلى OKRs/KPIs ومراجعتها دوريًا عبر QBRs.
  6. حوكمة التنفيذ: تحديد الأدوار RACI وتفعيل سياسات تضارب المصالح وإدارة المخاطر.

8. الخاتمة

الاستراتيجية ليست وثيقة جامدة، بل ممارسة حية تجمع بين التخطيط المتعمد والتعلم التكيفي، وبين الموارد الداخلية والضغوط الخارجية. الفاعلية تتحدد بملاءمة المنهج للسياق، وبقدرة القيادة على تجسيد الاستراتيجية في سلوك يومي قابل للقياس والمراجعة. ويظل الإطار التطبيقي المقترح أداة عملية لتحقيق هذه الممارسة الحية عبر التشخيص الدقيق والقياس المستمر والتكيف الفعال.

© 2025 د. محمد عيدروس باروم — جميع الحقوق محفوظة يُسمح بالاقتباس لأغراض علمية وغير ربحية مع الإشارة إلى المصدر

تنويه: قد تبدو تواريخ النشر متقاربة نظرًا لعملية نقل وأرشفة الأبحاث بعد تدشين المدونة. تم اختيار المراجع وفق تأثيرها في حقل الاستراتيجية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فعالية نماذج الحوكمة المؤسسية في تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد

عقدة المنصب الجديد: الآليات السيكوسوسيولوجية لتقزيم الماضي وبناء الشرعية الزائفة في القيادة - إعداد: د. محمد عيدروس باروم