الشفافية لدى ناظر الوقف مع أصحاب المصلحة
ركيزة للحوكمة الرشيدة واستدامة الأثر
الملخّص التنفيذي
تُعد الشفافية لدى ناظر الوقف ركيزة أساسية لضمان فعالية الأوقاف واستدامتها، وتحقيق مقاصد الواقفين. يبحث هذا المقال في مفهوم الشفافية في إدارة الأوقاف، وأهميتها، وآليات تطبيقها، والتحديات التي تواجهها. وقد اعتمد المقال على منهجية تحليل الوثائق الرسمية والأدبيات الأكاديمية ذات الصلة، في إطار تحليلي نقدي. ويخلص إلى أن الشفافية ليست مجرد مطلب رقابي، بل أداة استراتيجية لبناء الثقة، وتعزيز المساءلة، وجذب الدعم المجتمعي، مع تقديم توصيات عملية لتعزيزها في قطاع الأوقاف.
مقدمة
يُعد نظام الوقف في الشريعة الإسلامية من أبرز التشريعات التي تجسّد التكامل بين البُعد التعبدي والتنموي؛ إذ يجمع بين السعي للأجر الأخروي وتحقيق الوظيفة المجتمعية في بناء الاقتصاد والدعم الاجتماعي. وتبرز الشفافية في إدارة الأوقاف كحجر زاوية لضمان نجاح هذا النظام واستمراريته، خاصة مع تطور أنماط الأوقاف وتشعّب علاقاتها مع أصحاب المصلحة. الشفافية هنا ليست مبدأً أخلاقيًا فحسب، بل ضرورة عملية لبناء الثقة، ومكافحة الفساد، ورفع الكفاءة الإدارية والمالية.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل متطلبات الشفافية التي يجب أن يلتزم بها ناظر الوقف في تعامله مع أصحاب المصلحة، بناءً على الأطر الشرعية والتنظيمية المعاصرة، مع رصد الآليات العملية والتحديات، وتقديم توصيات لتحسين الفاعلية وال الاستدامة. وتعتمد الدراسة على تحليل وثائق الهيئة العامة للأوقاف ولوائحها ذات الصلة، إضافة إلى الأدبيات الأكاديمية.
منهجية الدراسة
اعتمدت الدراسة منهجًا تحليليًا نقديًا للوثائق التنظيمية والمبادئ الإرشادية الصادرة عن الجهات المختصة، مع مراجعة انتقائية للأبحاث الأكاديمية ذات الصلة بمفاهيم الشفافية والحكومة الرشيدة في القطاع غير الربحي. وتم التركيز على التطبيقات العملية القابلة للتنفيذ في بيئات الأوقاف المختلفة.
1. الإطار المفاهيمي: الشفافية في سياق الوقف
يمكن تعريف الشفافية في الإدارة الوقفية، استنادًا إلى أدبيات الحوكمة، بأنها الانفتاح الكامل والإفصاح الواضح والدوري وإتاحة الوصول إلى المعلومات المتعلقة بأنشطة الوقف المالية والإدارية لجميع أصحاب المصلحة الشرعيين. وهي وسيلة لتحقيق المساءلة والعدالة والثقة بين الناظر وجميع المعنيين بشؤون الوقف.
تمتد دائرة أصحاب المصلحة إلى:
- الواقف: صاحب الشرط الملزم للناظر ما لم يخالف الشرع.
- الموقوف عليهم (المستحقون): الأفراد أو الفئات الموصوفة المستفيدة من الريع.
- الهيئات الرقابية والإشرافية: مثل الهيئة العامة للأوقاف والمحاكم المختصة.
- المجتمع: بوصفه المستفيد النهائي من الأثر التنموي للأوقاف الخيرية.
2. الأسس الشرعية والتنظيمية للشفافية
- النصوص الشرعية: تؤكد على أداء الأمانات وإقامة العدل، بما يقتضي حفظ أموال الوقف وإعلام المستحقين بحقوقهم بوضوح.
- شروط الواقف: قاعدة «شرط الواقف كنص الشارع» تجعل الالتزام بآليات الإفصاح والرقابة التي يضعها الواقف أمرًا واجبًا ما لم تخالف الشرع.
- اللوائح التنظيمية: تُلزم الأنظمة الحديثة الناظر بتسجيل الوقف وتوثيق التصرفات، وإعداد تقارير دورية، والإفصاح المالي في مواعيد محددة.
- مبادئ الحوكمة: تؤكد مبادئ الإفصاح والشفافية والمسؤولية والمساءلة، عبر سياسات واضحة لإتاحة المعلومات وإدارة التعارضات.
3. مظاهر وآليات تطبيق الشفافية
3.1 الإفصاح المالي والإداري
إعداد تقارير دورية عن الإيرادات والمصروفات، وتدقيقها عبر مراجع خارجي للأوقاف المتوسطة والكبيرة، مع حفظ سجلات ومعاملات قابلة للمراجعة في أي وقت، واعتماد نظم محاسبية وتوثيقية حديثة.
3.2 التواصل المباشر مع المستحقين
إبلاغ المستحقين بحقوقهم وأنصبتهم ومواعيد وآليات الصرف، وإتاحة الاطلاع على البيانات ذات الصلة، واستقبال الشكاوى والاستفسارات ومعالجتها ضمن أطر زمنية معلنة.
3.3 الإفصاح عن تعارض المصالح
الإفصاح الكامل عن أي مصلحة شخصية للناظر أو أقاربه قد تتعارض مع مصلحة الوقف، والامتناع عن المشاركة في القرار المتعلق بها، مع وجود سياسة مكتوبة لإدارة التعارضات وآليات الإبلاغ عنها.
3.4 إعداد وتوثيق السياسات الداخلية
وضع دليل حوكمة داخلي يحدّد سياسات الإفصاح والشفافية، ومسارات اتخاذ القرار، والاختصاصات، وقنوات التواصل؛ بما يعزز الشفافية الداخلية ويحمي الإدارة من اتهامات المحاباة أو سوء التدبير.
4. تحديات وتعقيدات التطبيق
- ضعف الموارد: عائق أمام التعاقد مع مدققين خارجيين أو تبنّي أنظمة معلومات متقدمة.
- التركيز التعبدي على حساب الإداري: يؤدّي إلى إغفال متطلبات الضبط المالي والحوكمي.
- تعقيد الأوضاع العائلية أو الأهلية: خصوصًا مع تعدّد المستحقين وما قد ينشأ عنه من حساسيات.
- قصور البيئة التنظيمية الداعمة: الحاجة إلى أطر واضحة تحمي الملتزم وتُلزم المقصّر.
5. خاتمة وتوصيات
الشفافية في إدارة الوقف ضرورة شرعية واستراتيجية لضمان الاستدامة وتحقيق المقاصد. هي تعزّز الثقة والمساءلة، وتحدّ من مخاطر الاستغلال والفساد، وتزيد من جاذبية الوقف كأداة للبذل والتنمية.
توصيات عملية:
- تعزيز الأطر التنظيمية: لوائح تفصيلية تراعي اختلاف أحجام الأوقاف، مع نماذج موحّدة للتقارير المالية والإدارية.
- بناء القدرات: برامج تدريبية للنظار في الإفصاح المالي، وإدارة علاقات أصحاب المصلحة، وسياسات تضارب المصالح.
- التحول الرقمي: تبنّي منصات إلكترونية للإفصاح وإتاحة المعلومات مع ضوابط أمن البيانات.
- توعية الواقفين: النصّ صراحةً على متطلبات الشفافية والمساءلة في صكوك الوقف، وانتقاء نظار كفوئين نزهاء.
- حوافز ودعم: تمكين الأوقاف الصغيرة فنيًا وماليًا للوفاء بمتطلبات الشفافية، ومنح اعتماد أو أولوية دعم للأوقاف المتميزة.
إن مسار الشفافية متدرّج ويتطلّب إرادة مشتركة من النظار والواقفين والجهات الرقابية. وهي ليست خيارًا إداريًا إضافيًا، بل شرط جوهري لبقاء الأوقاف واستمرار أثرها؛ وكل جهدٍ يُستثمر اليوم في ترسيخها هو استثمار مباشر في ثقة المجتمع وعدالة وفاعلية مؤسساته الوقفية.
المراجع
(يُوصى باستكمال بيانات النشر والتواريخ وفق دليل التوثيق المعتمد)
- الهيئة العامة للأوقاف. مسودة مبادئ حوكمة الأوقاف.
- القحوم، عبد الحميد. تحويل نظارة الوقف من الشخصية الطبيعية إلى الشخصية الاعتبارية.
- استثمار المستقبل للأوقاف. مدخلات بناء معايير حوكمة الأوقاف.
- باروم، محمد عيدروس. العلاقة بين ناظر الوقف والمستحقين.
- عكاظ. «مساءلة أعضاء مجلس النظارة ومنسوبي الوقف ضمن حوكمة الأوقاف» (تقرير صحفي). رابط الخبر.
- الهيئة العامة للأوقاف. لائحة تنظيم أعمال النظارة.
- استثمار المستقبل للأوقاف. أسس حوكمة الوقف.
جميع الحقوق محفوظة ©
د. محمد عيدروس باروم
يسمح بالنشر مع الإشارة إلى المصدر واسم المؤلف
تعليقات
إرسال تعليق