تسعى هذه الورقة إلى تحليل السلفة النثرية (بنسبة 5٪ من الغلة) في الأوقاف التي تخلو من النفقات التشغيلية بسبب تحمّل المستأجرين كامل أعمال الصيانة عبر عقود إيجار شاملة. وتخلص الورقة إلى أن الأصل الشرعي والنظامي يقتضي عدم جواز الصرف عند زوال علته، وتوصي بتحويل هذه الأموال نحو مسارات استثمارية تحقق مقاصد الوقف وتحافظ على المال العام.
تُعدّ السلفة النثرية في الأوقاف بندًا تشغيليًا تقليديًا أُسِّس لتمكين الناظر من مواجهة المصروفات الطارئة وأعمال الصيانة البسيطة دون الحاجة للرجوع إلى القضاء في كل أمر جزئي. وقد اعتادت المحاكم الشرعية في المملكة على تحديد نسبتها بـ (5٪) من الغلة السنوية في العديد من الصكوك الوقفية.
غير أن التطور الحديث في نماذج إدارة العقارات الوقفية – ولا سيما العقود الشاملة التي يتحمل فيها المستأجر جميع تكاليف الصيانة والتشغيل – أفرز واقعًا ماليًا جديدًا يدعو إلى إعادة النظر في مشروعية وملاءمة استمرار صرف هذه السلفة في ظل انعدام الموجب الشرعي أو النظامي، وذلك لزوال العلة الأصلية التي شرعت من أجلها.
يستند الأصل في مشروعية السلفة إلى الحديث النبوي الشريف:
وقد دلّ الحديث على أن الأصل في تصرف الناظر هو الأمانة والاحتساب، لا الاستحقاق الذاتي، مما يوجب ضبط التصرف بالعرف المالي المشروع.
واستنبط الفقهاء من عبارة «بالمعروف» قاعدة عامة مفادها أن الناظر لا يجوز له أن يأخذ من مال الوقف إلا بقدر الحاجة الفعلية وفي الإطار الذي يحقق مصلحة الوقف لا مصلحته الشخصية. وعليه، فإن العلة الشرعية للسلفة هي وجود نفقات تشغيلية عاجلة تستلزم الحفاظ على الأصل واستمرار منفعته.
السلفة ليست مكافأة ثابتة للناظر، بل أداة تمويلية مؤقتة تُصرف وفق الحاجة ثم تُسوّى محاسبيًا بناءً على فواتير موثقة.
توضّح هذه الدراسة الأثر المالي والشرعي المباشر للسلفة على موازنة الوقف ومدى اتساقها مع قواعد الصرف الشرعي. لنفترض غلة سنوية مقدارها (5,500,000) ريال، ونصًا في الصك على سلفة (5٪) قدرها (275,000) ريال، مع عقود شاملة يتحمل فيها المستأجر الصيانة والتشغيل؛ عندئذٍ تنتفي العلة الشرعية والمالية الموجبة للصرف.
وبما أنّ النظام المالي يشترط لإثبات الصرف مستندات رسمية معتمدة، فإن عدم وجود نفقة فعلية يجعل السلفة عهدة مستردة تُقفل محاسبيًا في نهاية السنة، ويُحظر ترحيلها أو صرفها دون موجب.
يقع خلطٌ بين السلفة التشغيلية وأجرة النظارة. الأجرة مقابل العمل الإداري والرقابي، أمّا السلفة فلتغطية نفقات الوقف التشغيلية (إصلاحات ومستلزمات). وجود أجر للناظر لا يبرر استمرار صرف السلفة إذا انتفت الحاجة؛ إذ إن السلفة حقٌّ للوقف وليست للناظر، وتخصيصها دون مصروف فعلي يُعد تعديًا على مال الوقف.
عند توقف السلفة، يمكن إعادة توجيه المبالغ وفق الضوابط التي تراعي مقاصد الوقف واستدامة أثره:
النتيجة الشرعية: مع عقود شاملة تُسقط النفقات التشغيلية، يصبح صرف السلفة غير جائز لانعدام العلة، ولا يجوز تحميل الوقف مصروفًا غير موجود.
النتيجة النظامية: صرف السلفة دون مصروفات مثبتة يمثل مخالفة مالية تستوجب الرد والمساءلة وفق اللائحة التنفيذية.
تمثل السلفة النثرية وسيلة تشغيلية مؤقتة لا تتحول إلى حق دائم، وحكمها مرتبط بوجود الحاجة التي شرعت من أجلها. ومع زوال النفقات التشغيلية، يجب إيقاف صرفها وتحويلها إلى مسار يستفيد منه المستحقون مباشرة، تحقيقًا لمقاصد الواقفين وتعظيم النفع العام.
إعداد: د. محمد عيدروس باروم — باحث في الحوكمة والقيادة والاستراتيجية والوقف — حاصل على إجازة علمية موسعة في أحكام الوقف (المدينة المنورة 1441هـ).
© 2025 جميع الحقوق محفوظة
د. محمد عيدروس باروم
يُسمح بالاقتباس لأغراض علمية وغير ربحية مع الإشارة إلى المصدر
تعليقات
إرسال تعليق