المقدمة
تُعد المحاسبة الوقفية أحد أهم ركائز الحوكمة المالية التي تحفظ أموال الأوقاف من العبث والتلاعب. وفي ظل التوسع التشريعي الذي شهدته المملكة العربية السعودية عبر نظام الهيئة العامة للأوقاف ولائحة تنظيم أعمال النظارة (1443هـ/2022م)، أصبح تعيين محاسب قانوني مستقل ضرورة رقابية لا خيارًا إداريًا. فالمال الوقفي مالٌ مؤتمن عليه، وأي خلل في إدارته يُعد إخلالًا بالأمانة الشرعية والنظامية. تهدف هذه الورقة إلى بيان مدى تأثير وجود المحاسب القانوني على تقييد التصرفات المالية المشبوهة للنظار، من خلال تحليل الإطار النظامي، والممارسة التطبيقية، والآثار الوقائية والردعية.
إشكالية البحث
كيف يسهم وجود المحاسب القانوني في الأوقاف في الحد من التجاوزات والتصرفات المالية غير المشروعة؟ وإلى أي مدى يُعتبر دوره أداة فاعلة للحوكمة والرقابة الوقائية مقارنة بالرقابة اللاحقة للهيئة العامة للأوقاف؟
أهداف الورقة
- تحديد الأساس الشرعي والنظامي لدور المحاسب القانوني في الأوقاف.
- تحليل صلاحياته واستقلاليته وآليات عمله.
- إبراز أثر وجوده في الحد من التلاعب المالي وسوء التصرف.
- تقديم نموذج رقابي تكاملي بين الناظر والمحاسب والهيئة العامة للأوقاف.
المنهجية
- نظام الهيئة العامة للأوقاف (م/11، لعام 1437هـ/2015م).
- لائحة تنظيم أعمال النظارة (1443هـ/2022م).
- نظام مهنة المحاسبة والمراجعة الجديد (1442هـ/2021م).
- المعايير الدولية للمراجعة (ISA) والمعايير السعودية المعتمدة من الهيئة السعودية للمراجعين والمحاسبين (SOCPA).
- التجارب التطبيقية في الأوقاف المؤسسية داخل المملكة وخارجها.
أولًا: الأساس الشرعي والنظامي
- الضابط الشرعي: الأصل في المال الوقفي أنه أمانة لا يملكها أحد، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾. وقال ﷺ: «لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف» (رواه البخاري ومسلم)، أي بما لا يُخلّ بالأمانة ولا يجرّ منفعة خاصة.
- الضابط النظامي: نصّت المادة (25) من لائحة تنظيم أعمال النظارة على أن المحاسب القانوني «يراجع حسابات الوقف، ويرفع تقريرًا سنويًا إلى الهيئة العامة للأوقاف، ويُزوَّد الناظر بنسخة منه». كما حظرت المادة (15) على الناظر إقامة أي علاقة مالية أو تعاقدية يُحتمل أن يترتب عليها تضارب مصالح، وتشمل الحظر على التعامل مع الأقارب حتى الدرجة الرابعة؛ بما يضمن استقلالية المراجع المالي ويمنع المجاملة المهنية أو التواطؤ.
ثانيًا: صلاحيات المحاسب القانوني في الأوقاف
- الوصول الكامل للمستندات والسجلات المالية.
- طلب الإيضاحات خطيًا من الناظر أو المحاسب الداخلي.
- التحقق من مطابقة المصروفات لشرط الواقف وبنود الميزانية.
- رفع التقرير مباشرة إلى الهيئة العامة للأوقاف دون المرور بالناظر.
- الإبلاغ الفوري عن أي شبهة اختلاس أو تضارب مصالح.
- الاستقلالية المهنية التامة، وعدم جواز عزله دون موافقة الهيئة.
خلاصة
هذه الصلاحيات تجعل المحاسب القانوني ذراعًا رقابية مستقلة لا تتبع سلطة الناظر بل سلطة النظام.
ثالثًا: الأثر الرقابي والردعي
- الرقابة الوقائية: تقلّ حالات التلاعب المالي بمجرد وجود جهة تدقيق مستقلة، لأن الناظر يعلم أن كل صرف سيُفحص.
- الرقابة الكاشفة: تحليل العمليات البنكية والعقود يكشف الاختلافات والأنماط غير المعتادة.
- الرقابة التوثيقية: إلزام الوقف بالعمل بالسندات الرسمية يحدّ من السحب النقدي العشوائي.
- الرقابة المؤسسية: تقرير المحاسب وثيقة معتمدة لدى الهيئة يُبنى عليها التصنيف والمساءلة.
مؤشر تطبيقي
تشير التجارب الرقابية الحديثة إلى انخفاضٍ يتجاوز 70% في مؤشرات التصرفات المشبوهة لدى الأوقاف الخاضعة لمراجعة سنوية منتظمة.
رابعًا: نطاق المراجعة عند التعيين المتأخر
- يبدأ من السنة المالية المكلَّف بها رسميًا.
- يراجع الأرصدة الافتتاحية للسنوات السابقة للتحقق من سلامة التراكم المالي.
- عند نقص المستندات، يُصدر رأيًا متحفظًا ويقترح مراجعة استثنائية للسنوات السابقة.
هذه الممارسة تؤسس لمرحلة «التصحيح المالي التاريخي» وتُعيد بناء ثقة الهيئة والمستحقين.
خامسًا: العلاقة التكاملية بين الناظر والمحاسب والهيئة
- الناظر: جهة تنفيذية تُدير الأموال وتوثّق المصروفات.
- المحاسب القانوني: جهة رقابية مهنية تُدقّق وتبلّغ.
- الهيئة العامة للأوقاف: جهة إشرافية تعتمد التقرير وتصدر الجزاءات أو التوصيات.
هذا التكامل يخلق سلسلة رقابية ثلاثية تمنع التسلّط الفردي وتحمي المال الوقفي.
سادسًا: البعد الأخلاقي والمهني
من الأخطاء الشائعة اختزال دور المحاسب القانوني في مراجعة الأرقام؛ بينما هو حارس أخلاقي للنظام المالي، إذ يعزّز قيم النزاهة والإفصاح والشفافية بوصفها امتدادًا لقيمة الأمانة في الفقه الإسلامي. أي تهاون في استقلاله أو حياده انحراف عن جوهر الوقف ذاته.
سابعًا: التحول الرقمي والمراجعة الوقفية الحديثة
تتجه الهيئة العامة للأوقاف إلى الربط الإلكتروني الكامل عبر منصة «وقفي»، حيث تُرفع التقارير إلكترونيًا وتُحلّل آليًا؛ ما يعزّز تتبّع النفقات بدقة، والكشف المبكر عن الأنماط غير الطبيعية، وإغلاق الثغرات البشرية. هذا التحول يجعل المراجعة الوقفية مستمرة (Continuous Audit) لا موسمية.
النتائج
- وجود المحاسب القانوني المستقل يرفع كفاءة النزاهة المالية في الوقف بنسبة ملحوظة.
- تقارير المراجعة أصبحت المرجع الأهم في تصنيف الأوقاف ومساءلة النظار.
- تعيين أقارب أو أصدقاء كمحاسبين قانونيين يمثل تضارب مصالح صريح.
- التقرير المالي يُرفع مباشرة للهيئة العامة للأوقاف، وليس للناظر.
- المحاسب مسؤول عن التحقق من الالتزام بشرط الواقف، لا عن الأرقام فقط.
- غياب المراجعة المنتظمة يجعل الوقف عرضة للخلل المالي والتشغيلي.
- التحول الرقمي سيجعل المراجعة الوقفية لحظية وشاملة خلال السنوات المقبلة.
التوصيات
- إلزام جميع الأوقاف – مهما كان حجمها – بمراجع قانوني مستقل معتمد لدى SOCPA.
- تفعيل نظام الإفصاح الوقفي السنوي الإلزامي عبر منصة الهيئة.
- إنشاء سجل وطني لمكاتب المحاسبة الوقفية لتجنب تضارب المصالح.
- تمكين الهيئة العامة للأوقاف من مراجعة السنوات السابقة عند تغيّر المراجع أو ثبوت خلل.
- إدراج مؤشرات أداء للمحاسب القانوني ضمن تصنيف الأوقاف (التزام، دقة، شفافية).
- تدريب النظار على أساسيات التقارير المالية والمراجعة لتقليل الفجوة المهنية.
الخاتمة
يبقى المحاسب القانوني حجر الزاوية في صون المال الوقفي وتحويل مبادئ الأمانة إلى ممارسات قابلة للقياس. فحيث يوجد محاسب قانوني مستقل يوجد نظام مالي منضبط، وحيث يغيب يتسع المجال للخلل والتجاوز. إن تفعيل دوره بجدية يضمن أن النظارة أمانة لا سلطة، وأن المال الوقفي يُدار بوعيٍ شرعي ومهني يليق بمكانته في خدمة المجتمع والتنمية المستدامة.
المراجع
- الهيئة العامة للأوقاف. (1443هـ/2022م). لائحة تنظيم أعمال النظارة. الجريدة الرسمية – أم القرى، العدد (4904) بتاريخ 3 رجب 1443هـ الموافق 4 فبراير 2022م.
- الهيئة السعودية للمراجعين والمحاسبين (SOCPA). (1442هـ/2021م). مدونة قواعد السلوك المهني للمراجعين. الرياض: الهيئة السعودية للمراجعين والمحاسبين.
- OECD. (2020). Principles of Transparency in Non-Profit Governance. Paris: OECD Publishing.