تطرح هذه الورقة إشكالية توجيه الفوائض المالية في الأوقاف ذات الأسهم الخيرية (كوقف الخبز والماء) نحو تنمية أصل الوقف وصيانته. وتستعرض الورقة الإجابة من خلال الجمع بين التأصيل الفقهي الذي يجيز ذلك حفظًا للأصل واستدامة للنفع، والإطار النظامي السعودي الذي ينظمه ويضبطه بضوابط الشفافية والمساءلة، مقدمةً نموذجًا تطبيقيًا وآليات مؤسسية لتحقيق هذا التوجيه.
تشكل إدارة الفوائض المالية في الأوقاف إحدى القضايا المحورية التي تتداخل فيها الجوانب الفقهية مع المحاسبية والإدارية. وغالبًا ما تحقق الأوقاف ذات الطابع الخدمي (كالخبز والماء والصدقات) فوائض مالية سنوية تفوق احتياجاتها التشغيلية المباشرة، مما يثير تساؤلاً جوهريًا:
هل يُمكن توجيه هذا الفائض لاستثماره في تنمية أصول الوقف أو صيانتها عند الحاجة؟
الإجابة عن هذا التساؤل تستلزم تحقيق توازن دقيق بين مقصد الواقف الأصلي في تخصيص الغلّة، والمقصد الشرعي الأعلى في حفظ أصل الوقف وضمان استدامة منفعته.
ينطلق الحكم الشرعي في هذه المسألة من قاعدة "شرط الواقف كنص الشارع"، مما يستوجب الالتزام بشروط الواقف ما لم تخالف مقاصد الشريعة. ومع هذا، فقد أجاز الفقهاء تحويل مصرف الغلّة عند تعذر تنفيذ شرط الواقف تحققًا أو تعطيلاً، تحقيقًا للمقصد العام للوقف.
ويستند هذا الإجازة إلى عدد من الأدلة والاعتبارات:
وبناءً عليه، يقرر الفقهاء أن استدامة نفع الوقف – التي تتم بحفظ أصله وتنميته – هي مقصد مُقدّم على تحقيق المنفعة الآنية، إذا تعذر الجمع بينهما.
أضفت اللائحة التنفيذية للهيئة العامة للأوقاف (الصادرة عام 1445هـ) إطارًا تنظيميًا دقيقًا لهذه المسألة، حيث جاء في المادة (14) منها:
"يَجوز استخدام جزء من ريع الوقف في صيانة أعيانه أو إعادة تأهيلها أو تنمية أصوله إذا كان ذلك ضروريًا لحفظ أصل الوقف واستدامة نفعه، ويُعتمد ذلك بقرار من الناظر بعد موافقة الهيئة."
ويُستنتج من هذا النص أن النظام السعودي:
لتوضيح الآلية العملية، يمكن افتراض حالة شائعة في الأوقاف الخيرية:
يجب التأكيد على أن الفقه الحقيقي لإدارة الأوقاف لا يقف عند حرفية النص، بل يتعداه إلى تحقيق مقصد الواقف الجوهري. فإذا كان التقيّد الحرفي بشرط صرف الغلّة سيؤدي إلى تعطيل أصل الوقف أو تضييع منفعته، فإن ذلك يُعدّ مخالفة للمقصد الأساسي الذي وقف من أجله، وهو "دوام النفع". وبالتالي، يصبح تحويل الفائض للصيانة والتنمية تجسيدًا حيًا لإرادة الواقف الحقيقية التي تهدف إلى الاستمرارية، وليس مجرد الوفاء بعبارة قد لا تتحقق غايتها بغير هذه الآلية.
يُعدّ توجيه فوائض الأسهم الخيرية toward تنمية أصول الوقف وصيانتها ليس مجرد خيار إداري، بل هو تحقيق للمقصد الشرعي والأصلي للواقف، وهو حفظ رأس المال الوقفي واستدامة إنتاجه الخيري. لقد اتفق الفقه القديم مع التنظيم الحديث على أن عمارة الوقف مقدمة على توزيع غلته عند التعارض، وأن الاستثمار في استمرارية الأصل الوقفي هو أعظم برًا وأبقى أثرًا. وعليه، فإن بناء أنظمة محاسبية رشيدة، واتخاذ قرارات نظارة مستنيرة، تستطيع أن توازن بين الوفاء بالنص وتحقيق المقصد، لتضمن استمرارية العطاء الوقفي وتعظيم أثره في المجتمع.
© 2025 جميع الحقوق محفوظة
د. محمد عيدروس باروم
يُسمح بالاقتباس لأغراض علمية وغير ربحية مع الإشارة إلى المصدر
تعليقات
إرسال تعليق